الثقافة التنظيمية: تأثيرها العميق رغم عدم وضوحها

الثقافة التنظيمية: تأثيرها العميق رغم عدم وضوحها

عبود بن علي آل زاحم

خبير تدريب وتطوير المواهب

عضو الجمعية السعودية للموارد البشرية

لم أكن أتصور يومًا أن أُحب عملي لهذا الحد، ليس لأن المهام سهلة، أو ساعات العمل قصيرة، أو حتى لأن الامتيازات مغرية… بل لأنني ببساطة أشعر أني “أنتمي”. نعم، الانتماء… تلك الكلمة التي تبدو للوهلة الأولى عاطفية أكثر من اللازم في عالم الأرقام والخطط، لكنها اليوم هي السبب في استمراري، بل وتألّقي، في مكان عملي.

بدأت رحلتي قبل سنوات في هذه المنظمة. كنت متحمسًا في أول يوم، ومُرتبكًا كأي موظف جديد لا يعرف شيئًا عن النظام ولا عن ثقافة المكان. لكن ما لفت انتباهي منذ اللحظة الأولى لم يكن المبنى أو الأجهزة أو الاجتماعات الأولى، بل شيء لم أكن أستطيع تسميته حينها. كان الجو مختلفًا… الناس تبتسم، المدير ينصت، الزملاء يعرضون المساعدة دون أن أطلب. لاحقًا عرفت أن ما شعرت به كان جزءًا من “الثقافة المؤسسية”.

مرت بي مواقف كثيرة تأكد لي فيها أن هذه الثقافة ليست مجاملة مؤقتة. في أحد المشاريع، أخطأت في تقدير مهمّة وتسبب ذلك في تأخر التسليم. كنت أتوقع رد فعل قاسٍ، لكن ما حدث كان مختلفًا تمامًا. مديري سألني: “وش تعلمت من اللي صار؟” فقط. لم يُقلل من خطئي، لكنه لم يجعل منه حاجزًا. فتح لي الباب لأتعلّم، لأراجع، ولأنمو.

وفي مرة أخرى، مرّ أحد الزملاء بظرف صحي حرج. لم أكن أتوقع أن تتوقف الاجتماعات لتوفير الدعم النفسي له، أو أن ترسل الإدارة العامة رسالة معنوية للجميع عن أهمية “الوقوف مع بعض”، لكن ذلك حدث. هنا، عرفت أن قيمنا في هذه المنظمة ليست شعارات مطبوعة على كتيّب داخلي، بل أفعال تُمارس كل يوم.

شعرت أنني في بيئة لا تقتل الشغف، بل تُشعله. في كل مبادرة أو فكرة جديدة، لم أكن أخشى الرفض بقدر ما كنت متحمسًا لسماع: “خلنا نجرّب”. كنت أرى في عيون القادة تشجيعًا صادقًا، لا مجرّد وعود جوفاء.

الثقافة المؤسسية تصنع هذا الشعور… بأن صوتك مسموع، أن وجودك له قيمة، وأنك لا تعمل فقط من أجل الراتب، بل من أجل أثر. حتى النقد هنا مختلف؛ نقد يُصلح لا يُجرّح، يُوجّه لا يُقصي.

في بيئة مثل هذه، يصبح من الطبيعي أن تبادر، أن تتعلم، أن تدرّب غيرك، أن تفكّر في مصلحة الفريق لا مصلحتك الشخصية فقط. تصبح الجودة عادة، لا توجيهًا. وتصبح الأخلاق المهنية هي الأصل، لا الاستثناء.

ولعل أجمل ما في هذه الثقافة أنها تُكافئ لا على الإنجاز فقط، بل على السلوك. عندما رأيت أحد الزملاء يُكرّم لأنه ساعد أكثر من موظف جديد، رغم أنه ليس مشرفًا عليهم، فهمت أن “الروح” هنا لها وزن. نحن نُكافأ لأننا بشر نحترم بعضنا، لا لأننا مجرد موظفين نحقق أهدافًا.

أكتب هذا وأنا أدرك تمامًا أن كثيرًا من الزملاء في مؤسسات أخرى لا يعيشون هذه التجربة. أعرف من غادروا منظمات ضخمة برواتب أعلى، فقط لأنهم تعبوا من الصمت، من التهميش، من المحسوبيات، من ثقافة “سدد واقترب”. ولذلك أقولها بكل صدق: ليست كل بيئة تُربّي الولاء، ولا كل منظمة تستحق الانتماء.

نحن لا نطلب الكمال، بل نحتاج إلى بيئة صادقة، تحترم إنسانيتنا، وترى فينا أكثر من مجرد مسميات. نحتاج إلى ثقافة تزرع الثقة، وتحصد الأداء.

في النهاية، قد لا نرى الثقافة المؤسسية بأعيننا، لكنها تعيش في تفاصيلنا اليومية… في طريقة الترحيب، في أسلوب النقد، في القرارات الصغيرة، في طريقة إنهاء الاجتماعات، وفي ردود أفعال القادة.

وصدق من قال:

“الثقافة لا تكتب… بل تُعاش.”