لماذا يختار بعض الأشخاص العقلانيين عدم تلقي اللقاحات رغم إيمانهم بالعلم؟

عندما يتفشى مرض يمكن الوقاية منه باللقاحات، مثل الحصبة، رغم توفر لقاحات فعالة، غالبًا ما يُتهم الآباء الذين لا يلقّحون أبناءهم بأنهم ضلوا الطريق أو أنانيون أو وقعوا فريسة للمعلومات المضللة.
لكن مختصين في سياسات اللقاحات والاقتصاد الصحي يرون أن قرار رفض التطعيم لا يُختزل في سوء فهم أو تردد فقط، بل ينطوي على منطق أعمق تُفسّره نظرية الألعاب — وهي إطار رياضي يوضح كيف يمكن لقرارات منطقية على المستوى الفردي أن تؤدي إلى نتائج ضارة على المستوى الجماعي.
خيار منطقي يؤدي إلى خطر جماعي
تُظهر نظرية الألعاب، التي ارتبطت باسم عالم الرياضيات جون ناش، أن التصرفات الفردية “العقلانية” لا تؤدي دائمًا إلى أفضل نتيجة للمجموعة بأكملها. وتُعد قرارات التطعيم مثالًا حيًا لذلك.
فعندما يقرر أحد الوالدين تطعيم طفله ضد الحصبة مثلًا، فهو يوازن بين المخاطر النادرة للآثار الجانبية وبين خطر الإصابة بالمرض. لكن هذا القرار يتأثر بما يقرره الآخرون؛ إذ إن وجود مناعة جماعية بفضل تطعيم غالبية السكان يقلّل من خطر انتشار المرض، ما يجعل بعض الأفراد يرون أن الامتناع عن التطعيم يبدو خيارًا أقل خطورة لأبنائهم — وهنا تكمن المفارقة.
فالاعتماد على قرارات فردية في مسألة صحية جماعية يؤدي إلى اختلال التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، ويقوّض هدف الصحة العامة.
مناعة جماعية تنهار أمام “الركوب المجاني”
هذا السلوك يوصلنا إلى ما يُعرف في الاقتصاد بـ”مشكلة الراكب المجاني”، حيث يستفيد الأفراد من جهود الآخرين دون المشاركة في تحمّل التكاليف. فحين تكون نسب التطعيم مرتفعة، قد يرى البعض أنه لا داعي لتحمّل حتى المخاطر البسيطة للقاح.
وتتنبأ نظرية الألعاب بأن برامج التطعيم الطوعية — حتى مع وجود لقاح مثالي تمامًا — لن تحقق تغطية كاملة بنسبة 100%، إذ سيفضل البعض دائمًا الركوب المجاني. وعندما تنخفض التغطية، كما حدث خلال السنوات الخمس الماضية، تعود الأوبئة للظهور، وهو ما حصل في ولاية تكساس الأميركية، حيث أدت تراجعات حادة في معدلات التطعيم إلى أسوأ تفشٍّ للحصبة خلال عقد.
الانحدار أسرع من التعافي
تشير النماذج الرياضية إلى أن انخفاض معدلات التطعيم يحدث بسرعة في حال ظهور مخاوف تتعلق بالسلامة، لكن استعادتها تكون أبطأ بكثير، لأن تعافي الثقة يتطلب وقتًا، فضلًا عن أن كل والد ينتظر أن يبدأ الآخرون بالتطعيم أولًا.
ويؤدي هذا إلى نشوء “تجمعات حساسة” — مناطق صغيرة ذات معدلات تطعيم منخفضة — حتى لو كانت النسبة العامة للتطعيم على مستوى الدولة تبدو جيدة. وهنا يظهر خطر تفشي الأمراض محليًا رغم ما يبدو كنجاح وطني في التطعيم.
المشكلة ليست أخلاقية
بحسب الخبراء، فإن هذا الانخفاض الحاد في معدلات التطعيم لم يكن مفاجئًا، بل كان متوقعًا بناءً على قواعد رياضية، ما يعني أن المشكلة تكمن في هشاشة النظام الصحي الجماعي، لا في فشل أخلاقي لدى الأفراد.
وفي الواقع، فإن اتهام الآباء بالأنانية أو الجهل قد يؤدي إلى نتائج عكسية، إذ يدفعهم إلى التمسك بمواقفهم بدل تغييرها. أما التواصل الفعّال، فيعتمد على الاعتراف بصحة بعض المخاوف الفردية، وفي الوقت نفسه شرح أهمية الحماية الجماعية.
كيف نقنع الآباء؟
دراسات عديدة أظهرت أن الرسائل التي تؤكد على أهمية حماية المجتمع وتهدئة مخاوف الآباء تكون أكثر فعالية من تلك التي تلومهم أو تركز على المسؤولية الفردية. ففي إحدى الدراسات عام 2021، ارتفعت رغبة الآباء بالتطعيم بنسبة 24% عندما تم استخدام رسائل جماعية تعترف بقلقهم، في حين انخفضت النسبة عند استخدام نبرة أخلاقية أو اتهامية.
كما أن وضوح المعلومات ضروري؛ فمثلاً: معدل الوفاة من الحصبة هو حالة من كل 500، وهو يفوق بكثير احتمالية حدوث أي آثار جانبية خطيرة من اللقاح — حقيقة قد تكون بديهية لكنها مفقودة في كثير من النقاشات العامة.
الطريق إلى الأمام
يتطلب التصدي لتراجع معدلات التطعيم استراتيجيات متعددة: التواصل الواضح، بناء الثقة في المجتمعات منخفضة التطعيم، وضمان الثبات في الرسائل الطبية. فكلما تغيرت رسائل الخبراء، زادت الشكوك لدى الجمهور.
أيضًا، جعل قرارات التطعيم مرئية داخل المجتمعات — عبر مناقشات مفتوحة أو نشر نسب التطعيم في المدارس مثلًا — يعزز من الأعراف الإيجابية.
ولا يزال مقدمو الرعاية الصحية هم المصدر الأكثر موثوقية للمعلومات، وإذا فهموا ديناميات نظرية الألعاب، فسيكون بإمكانهم التعامل مع التردد بشكل أذكى، مدركين أن معظم المترددين لا يعارضون اللقاحات مبدئيًا، بل فقط يوازنون المخاطر.