تجديد اتفاقية القرن مع الولايات المتحدة

تجديد اتفاقية القرن مع الولايات المتحدة

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب
أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى سابقا

 

أمريكا تبحث عن شركاء أقوياء، وليس عن حلفاء، ما جعل ترمب يعتمد على السعودية كشريك لا كحليف أكثر من اعتماده على أوروبا، لأنه يعتبر الاتحاد الأوروبي منافسًا لأمريكا أكثر من كونه شريكًا لها، باعتبار أن السعودية ليس لها وزن اقتصادي فقط، بل لها وزن سياسي، وهو الأهم، الذي نجحت من خلاله في رسم المشهد الإقليمي، بل وشاركت في رسم المشهد العالمي، بعدما نجحت في مواجهة التوجه الأوبامي، رغم محاولة بايدن مواكبة هذا التوجه للتصالح مع الاستراتيجية السعودية، خصوصًا في ظل تحولات عالمية كبرى.

تلتقي الاستراتيجية السعودية مع استراتيجية الولايات المتحدة في أن النمو والتنمية والاستثمار في المنطقة، خصوصًا بعدما غيرت الحرب الروسية في أوكرانيا وفرضت واقعًا جيو-اقتصاديًا جديدًا، في إيجاد الممر الهندي الأخضر لنقل الطاقة التقليدية والنظيفة من دول الخليج والمنطقة إلى أوروبا، إلى جانب الحزام والطريق الصيني الذي لا يتحقق إلا في ظل تهدئة التوترات وتصفير المشكلات التي اتبعتها السعودية، خصوصًا بعدما توصلت في مارس 2023 إلى تهدئة مع إيران برعاية بكين، أي أن السعودية فاعل إقليمي ودولي.

لم تكن العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة عبر تاريخها سوى علاقات تشاركية، رغم محطات مرت فيها توترات، لكن تبقى العلاقة بين البلدين استراتيجية لم تتزعزع، بسبب أن لها جذورًا تاريخية منذ اللقاء الأول بين الملك عبد العزيز والرئيس الأمريكي العائد من مؤتمر مالطا في 1945 على البارجة كوينسي بعد الحرب العالمية الثانية، ترسم علاقتها المبنية على الشراكة والصداقة لا على التبعية. لكن حكمة ملوك السعودية تغلب العلاقة الاستراتيجية الثابتة على الانفعال، خصوصًا عندما تكون العلاقات بين البلدين ليست على مستوى طموح قادة السعودية، فتبقى العلاقة في الحد المسموح له من الشراكة، دون أن يؤثر ذلك على سيادتها، كما لاحظنا أن السعودية رفضت في عهد بايدن رفع إنتاج النفط من أجل أن تنجح الانتخابات الأمريكية، وهي لا تود تسييس ملف النفط، وفي نفس الوقت لا تود التدخل في شأن داخلي في الولايات المتحدة، من أجل أن تقف على الحياد، وهذه سياسة ثابتة للسعودية في التعامل مع جميع الدول.

وجد ترمب في زيارته الثانية التاريخية للسعودية، مختلفة تمامًا عن زيارته لها في فترة ولايته الأولى، التي تركزت في القضاء على الإرهاب من أجل أن تصبح المنطقة أكثر نموًا وازدهارًا. تحقق هذا الازدهار في زيارته الثانية، ورأى التطور المذهل في السعودية، حيث وجدها قد فرضت نفسها على المشهد الإقليمي، بل وحتى على المشهد العالمي، وحققت على الصعيد الداخلي، إذ حققت 83 في المائة من أهداف رؤية المملكة 2030، بل هناك أهداف قد تخطت المستهدف، جعلها ترفع سقف أهدافها، وانخفض اعتماد اقتصادها على مداخيل النفط من 92 في المائة إلى 48 في المائة.

وازنت السعودية في علاقاتها الاستراتيجية بين جميع القوى، فرضت السعودية نفسها على الولايات المتحدة أن تتخذها شريكًا لها في ملفات وقضايا عالمية، أبرزها في الملف الأوكراني، والهندي الباكستاني، ومنصة جدة فيما يتعلق بالملف السوداني، خصوصًا بعدما اقتنعت أمريكا من أن السعودية لا تمثل مصدر قلق لها، بل هي شريك موثوق، حتى تحولت السعودية إلى مصدر إشادة، حتى في عهد بايدن، لأن لديها قدرة على إدارة الخلافات بعقلية دبلوماسية بعيدًا عن التصعيد، بل تنتهج دبلوماسية تمتلك قدرة من الصبر والاحتواء والحنكة، ولديها قدرة على امتصاص الصدمات عند إدارة الخلافات. رغم ذلك، السعودية لا تتنازل عن قيمها، بل أكدت مرارًا أن القيم لا تُفرض من الخارج ولا تُختزل في خطاب سياسي، وعلى لسان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قائلًا: (من المهم معرفة أن لكل دولة قيمًا مختلفة ويجب احترامها)، ما يعني أن السعودية دولة امتدادًا للرسالة المحمدية، ليست دولة ردود أفعال، بل دولة مواقف تستمدها من الرسالة التي خرجت من هذه الأرض، تعتز بهويتها العربية والإسلامية، ومواقفها تُبنى على احترام سيادتها وسيادة بقية الدول.

تقود السعودية سفينة النمو والتنمية، وتحويل المنطقة إلى “أوروبا الجديدة”، دون استنساخ تجارب سابقة، بل تنتهج تجربتها المميزة التي تستشرف المستقبل، باعتبارها قلب العروبة، ومنبع الإسلام، كما يؤمن ولي العهد بأن العروبة شرف، والإسلام عزّه. لذلك أوضح ولي العهد عندما التقى نائب الرئيس الفلسطيني أن القضية الفلسطينية قضية السعودية، وقضية كل فرد من أفراد الشعب السعودي. ومما يدلل على ذلك، بعد ما يسمى بـ”طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر، حملت السعودية إسرائيل المسؤولية، واستضافت مؤتمرات عربية وإسلامية، وجاب وزير الخارجية السعودي العالم، حتى تمكنت السعودية من انتزاع موافقة 149 دولة على قيام دولة فلسطين، من أجل وقف الصراع والتوتر في المنطقة، والقضاء على الإرهاب الذي يتغذى على القضية الفلسطينية.

وعندما رفع الرئيس ترمب العقوبات عن سوريا، صرّح بأنها تلبية لجهود سمو ولي العهد، وهي فرصة للقيادة السورية لرفع المعاناة عن الشعب السوري. وعندما اعتلى ترمب منصة منتدى الاستثمار، الذي أعدته السعودية لجذب استثمارات أمريكية، أدلى ترمب بشهادة عن السعودية ليست فيها مجاملات، عندما قال: “السعودية الرائعة بُنيت بأيادٍ سعودية وبثقافة عربية”، وهو ما يُعد فهمًا أمريكيًا لطبيعة العلاقة مع دولة عظمى تمضي قدمًا نحو المستقبل بخطى ثابتة. بناءً على ما حققته السعودية في السنوات الثمانية الماضية، ستكون الولايات المتحدة شريكة لها لثقتها في قدرة السعودية على وضع نفسها على خارطة القوى العظمى، والتحول إلى قطب اقتصادي وصناعي. وهي لا تمر بمرحلة انتقالية، بل تعيش مرحلة إثبات، لأن المنجزات هي التي تتحدث عن قدرة السعودية.