السرد لا يستقر في الشوارع

أحمد السماري – الأديب والكاتب وصاحب العديد من الإصدارات الأدبية
يُقال كثيرًا إن القصص مرمية على قارعة الطريق، يكفي أن تمرّ بها نظرة فطِنة أو التفاتة شاعر لالتقاطها، لكن هذه العبارة، وإن أغرت البعض، مخاتلة، تُضلّل من يظن أن السرد الحقيقي غنيمة سهلة، أو أن الحكايات الجيدة تنادينا من الأرصفة.
الحكاية التي تُروى لتُخلَّد، لا تُلتقط، لكنها تُكتشف، لا تُضيء في العلن، لأنها تتوارى خلف الضباب، تنتظر من يملك بصيرة الكشف، وصبر التجلي.
الحكايات الرديئة وحدها تسكن الطرقات، تلوّح للمارة بعناوين براقة وأقنعة مكرّرة، أما الحكاية الجديرة بالحياة، فهي بعيدة، خجولة، تتخفّى في مفازة من الشعور والفكرة، لا يبلغها الكاتب إلا إذا مشى في صحراء نفسه، وضرب لها أكباد الأبل، كما تقول العرب.
وكتب نجيب محفوظ: «الرواية الجيدة لا تُولد من فكرة، بل من معاناة».
ومعاناة الكتابة ليست ألمًا فقط، بل تورّط وجودي في سؤال المعنى، قلقٌ من جدوى الحكاية، ورغبةٌ في قول شيء يُشبه الحقيقة دون أن يُحاكيها.
الكاتب لا يبدأ من ورقة بيضاء، بل من فراغ داخلي عميق، من تلك المسافة الرمادية بين ما عاشه وما تخيّله، تمرّ أمامه لحظة، أو وجه، أو جملة عابرة؛ فتكون شرارة لا قصة، أما القصة الحقيقية، فهي ما ينمو من تلك الشرارة في داخله، يترسّب ويثقل وجدانه حتى لا يجد خلاصاً إلا بالكتابة.
وقال ماركيز: «القصة الجيدة تُكتب مرة واحدة، لكن تُعاش ألف مرة».
وذلك هو جوهر السرد الأصيل: أن تعيشه قبل أن تكتبه، أن تصغي إليه قبل أن تنطقه، الحكاية لا تُصاغ من الواقع وحده، ولا من الخيال وحده، بل من التوتر الخلّاق بين الاثنين، من المزج بين ما نعرفه، وما نحب أن نصدّقه.
لذلك، لا تُسارع إلى الكتابة ما إن تكتمل القصة في وجدانك، بل انتظرها، نمْ عليها، واتركها تتخمّر في داخلك، حتى تُولد شخصياتها من عصبك، وتتكوّن ملامحها من نبضك، وتنثال أحداثها كما لو كنت لا تكتب، بل تتذكّر.
قال جبران: «لا يستطيع الكاتب أن يُعلّم، بل أن يُشعل نيران الأسئلة في أعماقك».
وهذه غاية الحكاية الكبرى: أن توقظ ما كان نائمًا في القارئ، لا أن تعلّمه ما يعرفه أصلًا؛ فالقصة العظيمة لا يمكن أن تتحول إلى تمرينًا ميكانيكيًا، يخلقها طقسٌ وجداني، وتسير بها في مخاطرة فكرية، وتمر من خلالها بتجربة تمسّ الروح.
وفي النهاية، حين تكتب كلمة “انتهت” في أسفل الصفحة، تدرك أنها لم تنتهِ حقًّا، بل بدأت حياتها في ذهن قارئٍ ما، في زمنٍ ما، يحملها كما يُمسك بجُمر، متردداً بين الاحتراق بها.. أو إلقائها لتبرد، ولهذا، السرد لا يسكن الطرقات.