براز الأخضر.. عندما تتحدث الروح بلغة النور

براز الأخضر.. عندما تتحدث الروح بلغة النور

أحمد الدليان

في البدء، لم يكن فينا سوى الطفولة تمشي، تتعثّر، وتنهض من جديد… وكانت المسافات أمامنا شاسعة، مترامية، لا نعرف إلى أين تأخذنا، لكننا كنا نركض بثقة، كأن الضوء في دواخلنا يكفينا عن كل خرائط الطريق. ومع كل خطوة نخطوها، ومع كل انكسارٍ صغير أو حلمٍ كبير، يشتد بريق الزمرد داخلنا؛ ذلك البوح النبيل الذي لا يظهر على اللسان، بل يضيء من الأعماق.

الزمرد لا يبوح إلا تحت الضغط

الزمرد نادرٌ بطبيعته، لا يتشكل إلا في أعماق الأرض، تحت ضغط هائل وحرارة شديدة. وكذلك أرواحنا… لا يشتد بريقها إلا حين تعبر نيران التجربة. كل حزن نمر به، كل قلقٍ سكن صدورنا، كل خيبةٍ قاومناها، هي التي تبلور فينا حكمةً ووهجًا يصعب أن يُرى من الخارج، لكنه يلمع حين تشتد العتمة.

وكما قال الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة: “الحياة طريق طويل، لا يضيئه إلا مصباح اسمه: التجربة.”

هذا هو بوح الزمرد، لا يبوح لأنه يريد، بل لأنه لا يملك إلا أن يفعل… حين تمتلئ الروح، وتتعب من التحمّل، وتفيض بالصدق، فتقول ما لا يُقال.

السعادة ليست هبة.. إنها قرار فلسفي

نخدع أنفسنا حين ننتظر أن تهبنا الحياة سعادة على طبق من ورد. السعادة ليست انتظارًا، إنها اختيار.

نختار أن نكون سعداء، لا لأن الظروف كاملة، بل لأن الروح قررت أن ترى النصف الممتلئ، أن تتجاوز الخوف، أن تبتسم حتى في العتمة.

أفلاطون قال: “الانتصار على النفس هو أعظم انتصار.” والسعادة ليست أكثر من انتصار هادئ على كل ما يهمس لنا بالانهزام.

وعندما نقرر أن نكون سعداء، فإننا لا نُلغي الألم، بل نمنعه من أن يتحول إلى هوية. لا تعني السعادة أن العواصف ستنتهي، بل أن السفينة ستظل تمضي، لأن دفتها ممسكة بروح تتشبث بالأمل، لا بالذكريات.

الخوف.. حارسٌ مزيّف للأمان

في أعماقنا خوفٌ فطري من المجهول، ولكن هذا الخوف – إن لم نضبطه – يتحول إلى كائن يتضخم داخلنا، يغذي نفسه من أفكارنا السوداء، ويقودنا بعيدًا عن كل ما نحب.

نخشى المستقبل، فنهرب من الحاضر، فنخسر اللحظتين معًا.

“إن أكثر الأشياء التي نخافها… لا تحدث أبدًا.” – مارك توين.

لكننا نصدق الخوف، لأننا اعتدنا حضوره في كل زاوية.

فنرى السعادة مقنّعة بوجه القلق، ونرى الحب على هيئة تهديد، ونرى الأمل كمجرد وهم.

وهكذا، حين تطرق السعادة بابنا، لا نفتح، لأننا نظنها طيفًا من خيبة سابقة.

لا تنشغل بمن لا يستحق.. واهتف للحب

القلوب التي امتلأت حقدًا لا تعرف طعم السعادة. إن الكراهية تستهلك طاقة الروح، وتمنع النور من التسلل إلى الداخل.

في المقابل، الحب لا يعني الغفلة، بل البصيرة. لا يعني الاستسلام، بل القوة في أبهى صورها.

الحب شجاعة… أن تحب رغم كل ما مررت به، أن تُهدي من قلبك قطعة ضوء في زمنٍ يتسابق فيه الجميع على إطفاء المصابيح.

كما قال جلال الدين الرومي: “عندما تدخل مشاعر الحب قلبك، يكون كل شيء في الكون في داخلك”.

فلنُهتف بالحب، لا لنمنّ به على أحد، بل لنطهر به دواخلنا من سواد الكره، لنفسح للسعادة مكانًا، وللإيجابية فرصة لتزهر.

الأفكار السلبية.. قفص ناعم لكنه قاتل

نعيش أحيانًا سنوات بأفكارٍ لم نختبرها، لكننا ورثناها، أو سمحنا لها أن تتسلل إلينا من خيبات الماضي.

نظن أن العالم ضدنا، أن الناس لا يتغيرون، أن الأمل مكلف، فنتراجع دون مقاومة، ونبني لأنفسنا قفصًا ذهبيًا من العادات البالية والتبريرات.

ولكن في أعماقنا، نحن نعلم… أننا نستحق الأفضل.

وكما قال نيتشه: “إذا أردت أن تحلق، فعليك أن تتخلص من الأثقال التي تسحبك إلى الأرض”.

لنطرح هذه الأثقال. لنمحو الصور القديمة التي لم تعد تمثلنا. لنجعل من التفكير الإيجابي عادةً يومية، لا طارئًا.

لننظف المرايا التي نرى بها العالم، لنبدأ من جديد كل صباح كأننا نولد من الحكمة لا من الذكرى.

بوح الزمرد.. تأمل لا يُقال إلا حين تُنصت الروح لنفسها

في نهاية المطاف، هذا البوح هو هدية من الداخل… يهمس لنا بأن الحياة مهما تعثرت، فإن داخلنا لا يزال نقيًا، براقًا، لم يُطفأ بعد.

هو صوت داخلي يقول:

كن زمردًا… ندرة في زمن التكرار، شفافية في زمن التزييف، وصدقًا في زمن الضجيج.

ولعلّ أجمل ما في الزمرد، أنه لا يحتاج أن يُقارن بأي شيء، يكفيه أنه مختلف… كما يكفيك أنت أن تكون صادقًا مع نفسك، حتى لو لم يفهمك أحد.

فكن زمردًا… واترك البوح يتكلم عنك.