أوراق التوت: عندما تعبر الروح عن صمتها

أوراق التوت: عندما تعبر الروح عن صمتها

أحمد الدليان

في قلب الزحام، حيث تفقد الأشياء معناها من فرط التكرار، وحيث تتحوّل الأيام إلى سلالم صامتة نرتقيها بلا وعي، هناك مساحة صغيرة في دواخلنا تظلّ تنبض، لا تراها العين، ولا تسمعها الأذن، لكنها تعرف طريقها إلى القلب. هناك تبدأ الروح بالكلام، همسًا أولًا، ثم وجعًا إن طال الصمت.

الروح ليست ظلًّا يرافق الجسد، ولا صوتًا داخليًا نُسقطه على مشاعرنا، بل هي الكينونة ذاتها. هي أصل النور فينا، وزِنة المعنى حين تخفّ كل الأوزان. تسكننا كما يسكن النسيم أوراق التوت، تداعبها حينًا، وتخلعها حينًا آخر، لا لتُميتها، بل لتُعيدها إلى التربة التي منها بدأت.

وتمامًا كأوراق التوت، لا تُقاس الروح بعمرٍ ولا بمقام، بل بقدرتها على النهوض بعد السقوط، على الإشراق بعد العتمة. كل خريفٍ يسلبها شيئًا، لكنه أيضًا يُعدّها لربيع قادم. سقوطها ليس موتًا، بل عودة، كما تعود البذرة إلى الأرض كي تنبت من جديد.

نظن أحيانًا أن فينا ما يُسمى “توازنًا”، لكنّ الحقيقة أننا فقط نحسن أداء الأدوار. نمشي بثقة في المظهر، ونتآكل بصمت في الجوهر. نُجيد فن البقاء في الضوء، لكننا ننسى أن نرتّب عتمتنا. نجمع الإنجازات، لكن أرواحنا تتبعثر. نُتقن فنون التواصل، بينما تغفو أعماقنا في وحدةٍ موحشة.

ليس الخطأ في أن تكون لنا وجوهٌ متعددة، بل في أن نعيش كل وجهٍ على حدة، منقطعًا عن الآخر، كأننا قطع مبعثرة على رقعة الحياة. فالروح لا تقبل أن تُجزّأ، لا تعرف التلوّن، ولا تتعايش مع الأقنعة. هي صوت واحد، نابع من صدقٍ واحد، لا يتبدّل ولا يتعدّد.

في زمن امتلأ بالشكليات، يغيب عن البعض أن الدين ليس فقط طقوسًا تُؤدّى، بل روحًا تُرتقى. في الإسلام، تتجلّى العظمة لا في عدد الشعائر، بل في عمق النيّة، وصدق التوجّه. في كل سجدةٍ خاشعة، لقاءٌ لا يُرى، لكنه يغيّر مجرى الروح.

وقد جسّد نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم هذا المعنى أروع تجسيد. لم يكن ناسكًا يعتزل الحياة، بل إنسانًا بكامل تفاصيله؛ قائدًا وزوجًا، صديقًا وتاجرًا، عاش في الأرض، لكنه ظلّ متصلًا بالسماء. روحه كانت بوصلة قلبه، وصمته كان صلاة، وخطاه كانت دعاءً متحركًا.

في لحظات الفقد، في مواضع الخذلان، في صمت الألم، هناك تُكشَف الروح، وهناك تُوزن. لا نحتاج مئات الكتب لنفهم الحياة، بل لحظة صدق مع أنفسنا. الروح الناضجة لا تُعرّف بالمعرفة، بل بالرُقيّ في رد الفعل، بالرحمة في لحظة الغضب، بالثبات حين تعصف الانفعالات. فالسلوك مرآة خفية، والهدوء حكمة لا تُدرّس.

الحياة الروحية لا تعني انعزالًا، ولا تقوقعًا بعيدًا عن الواقع. بل هي الغوص العميق في كل لحظة نعيشها، وفهم المعنى خلف كل تفصيل. أن تمشي في الزحام بقلب مطمئن، أن تُنصت للناس بوعي، أن تُسامح دون ضعف، وتحبّ دون قيد، هذا هو أثر الروح إذا نضجت.

لحظة تأمل، ساعة صفاء، دعاء خافت في ظلمة الليل، حديث صادق مع نفسك في صمت الفجر، كلها ليست طقوسًا عابرة، بل نوافذ تُشرّع نحو ذاتك. الروح لا تحتاج الكثير، فقط لمسة صدق، وشعور بالانتماء لما هو أعمق من الظاهر.

فأهمس إلى قلبك: “الروح لا تُروى بكثرة السعي، بل بصدق النيّة وهدوء الطمأنينة، كما لا تُزهر أوراق التوت من عاصفة، بل من قطرة ندى”.