تحولات عالمية تُقلل من فرص نجاح بريطانيا عقب الانفصال

تحولات عالمية تُقلل من فرص نجاح بريطانيا عقب الانفصال

خاص – الوئام 

بعد سنوات من الشعارات الرنانة حول “استعادة السيادة الوطنية”، تجد بريطانيا نفسها مضطرة إلى إعادة حساباتها الاستراتيجية. فقد عادت العلاقات البريطانية الأوروبية إلى الواجهة، ليس بدافع الحنين، بل نتيجة ضغوط الواقع الجيوسياسي والاقتصادي المتغير.

وفي ظل أزمات عالمية متلاحقة، تسعى لندن اليوم إلى تقليص آثار العزلة، والتوصل إلى توافقات جديدة مع الاتحاد الأوروبي، تعيد بعضًا من التوازن الذي فقدته منذ استفتاء الخروج عام 2016.

عودة المشهد القديم… بملامح جديدة

عادت أجواء بريكست إلى الساحة مجددًا، مع مفاوضات شاقة تمتد حتى ساعات الليل الأخيرة، وتلميحات إلى اتفاق تيريزا ماي الشهير. إلا أن الفارق هذه المرة يكمن في الجوهر لا في الشكل. فقد شهدت قمة لانكستر هاوس في لندن انفتاحًا غير مسبوق بين رئيس الوزراء البريطاني ونظرائه الأوروبيين، وسط رغبة معلنة في تعزيز التعاون في ملفات حيوية.

هذا التحول في الخطاب والممارسة يعكس إدراكًا متزايدًا من الطرفين لحجم التحديات المشتركة. فقد ترك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي البلاد أكثر هشاشة أمام التقلبات العالمية، مع تعطل سلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف التجارة، وتراجع القدرة على المشاركة في المبادرات الأوروبية للدفاع المشترك. ومع تصاعد الحرب في أوكرانيا وتراجع دور الولايات المتحدة كضامن للنظام التجاري العالمي، أصبح التعاون مع أوروبا ضرورة لا خيارًا.

اختلال في ميزان القوى

وفقًا لما نشرته صحيفة فاينانشال تايمز، كشفت قمة لندن عن حقيقة جلية: الاتحاد الأوروبي بات في موقع أقوى تفاوضيًا. ففي حين أبدت بريطانيا رغبتها في التوصل إلى اتفاقات زراعية وأمنية، لم تحصل على توقيع رسمي لأي منها، في ظل تصلب أوروبي تمثل في فرض شروط صعبة، كتمديد حصص الصيد البحري لمدة 12 عامًا.

ورغم تعثر بعض الملفات، تجنب الطرفان انهيار المباحثات، إدراكًا لخطورة الرسائل السلبية في لحظة جيوسياسية حرجة. اللافت في هذه الجولة كان تخلي بريطانيا عن الخطاب الشعبوي، لصالح نهج واقعي يعترف بالحاجة إلى شراكات تخفف من آثار الانفصال الاقتصادي.

نتائج متواضعة… ولكن واعدة

لم تكن النتائج المعلنة من القمة مبهرِة، لكنها اتسمت بالعملية، وشملت اتفاقًا أوليًا على تعزيز التعاون الأمني. كما أبدت لندن استعدادها لما يُعرف بـ”التقارب الديناميكي” في مجالي الزراعة والطاقة، أي التزامها بالتشريعات الأوروبية في هذين القطاعين، مع إمكانية الخضوع لرقابة قضائية أوروبية في بعض الحالات.

وقد قوبلت هذه الخطوات بانتقادات شديدة في الصحف البريطانية المحافظة، التي وصفتها بـ”الاستسلام” و”الطعنة في خاصرة بريكست”. والمفارقة أن كثيرًا من المنتقدين اليوم كانوا من أبرز مؤيدي اتفاق بوريس جونسون عام 2020، رغم أنه نفسه فرض شروط الصيد المثيرة للجدل. ما يؤكد وجود فجوة بين الخطاب الإعلامي والواقع السياسي والاقتصادي.

الوعود الكبرى التي تبخرت

رغم الوعود بأن بريكست سيحرر الاقتصاد البريطاني ويوفر له مرونة تنظيمية، لم يتحقق شيء من ذلك. مشاريع تعديل القوانين الأوروبية تأخرت أو أُلغيت، بما في ذلك وعود ريشي سوناك خلال حملته الانتخابية باستبدال جميع التشريعات الأوروبية خلال مئة يوم.

يتضح اليوم أن “حرية التشريع” التي حلم بها أنصار بريكست لم تحقق أي فائدة اقتصادية ملموسة، بل وضعت البلاد أمام خيارين صعبين: إما التقارب مع قواعد الاتحاد الأوروبي دون امتيازات السوق الموحدة، أو العودة الجزئية إلى الاتفاقات الأوروبية مقابل تخفيف الأعباء التجارية.

بريكست في زمن الانغلاق العالمي

جاء خروج بريطانيا في توقيت كارثي، تزامن مع تراجع الانفتاح العالمي بفعل جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، وصعود السياسات الحمائية. وبينما تدعم كل من واشنطن وبروكسل صناعاتها بمليارات الدولارات، تجد بريطانيا نفسها عاجزة عن مجاراة هذا الإنفاق، في وقت تعاني فيه بعض خدماتها العامة من الانهيار.

لم تعد الشعارات حول “استعادة السيادة” كافية لتبرير عزلة بريطانيا، فقد أظهرت البيانات الاقتصادية تراجعًا في الاستثمارات، وارتفاعًا في أسعار الغذاء، وضعفًا في الإيرادات الحكومية، في وقت يتجه فيه العالم نحو التكتلات الكبرى لا الانفصال.

الواقع يفرض نفسه

ما يجري اليوم ليس تراجعًا عن بريكست، بقدر ما هو اعتراف صريح بعجزه عن تلبية طموحات بريطانيا في عالم متقلب. وبدلاً من الهروب إلى الأمام بشعارات جوفاء، تتخذ الحكومة خطوات متواضعة لكنها واقعية لتخفيف الأضرار.

ورغم أن العودة الكاملة إلى الاتحاد الأوروبي قد لا تكون مطروحة حاليًا، فإن من الواضح أن “الخروج الصلب” لم يعد خيارًا مقبولًا.