ظل الفلاتر

ظل الفلاتر

منال أبو العلا
نائب مدير الاتحاد العالمي IWKBF لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا

هل رأيت يومًا “عفريتًا” داخل صندوق؟ هل أصبحتم أصدقاء، وائتمنته على كل أسرارك؟ هل حاولت تقمص شخصيته، حتى تلاشت هويتك الحقيقية؟ نعم، هذا ما يُسمى “طمس الهوية”، جيناتك الذرية التي تلوثت من هذا الصندوق الأسود الذي تحتضنه بين يديك.

في هذه الفوضى التي نعيشها، بل ونفتعلها، توجهنا تلك القطعة الحديدية التي لا تكاد تفارق أيدينا حتى بعد النوم. إنها تنبض بالحياة وتلتصق بنا كالسمكة “الماصة” الطفيلية التي تخترق جسد القرش من الأعلى لتمتص دماءه.

لقد تغيرت حياتنا، وأصبحنا بشرًا ننازع الفطرة والطبيعة، في محاولة للتشبث بأسلوب حياة لا يتوافق مع جيناتنا وذراتنا في هذا العالم.

لقد تحول معظم البشر إلى “مسوخ”، كما مُسخ كل شيء منذ بداية القرن الماضي، حيث تلاشى الإبداع ووقف البشر في طوابير يتهافتون بإرادتهم لحمل التقنية “الممسوخة” التي نازعت هذا التغيير القاتم قبل أن تحول حياتنا إلى جحيم.

فعوضًا عن إطلاق العنان للإبداع، يتم اتخاذ التقليد كـ”نبراس”، والكمال المزيف كـ”مرسى”، تحركنا رياح عاتية من العادات والأساليب الشاذة التي قد تغير طبائعنا وشخصيتنا بالكامل خلال شهور معدودة، فنظهر في هيئة جديدة تمامًا مستعينين “بالفلاتر” التي قد تطمس ملامحنا الحقيقية تمامًا.

وهم الكمال:

لا أحد ينشر صورته في أسوأ حالاته. لا أحد يبث لحظة شكه بنفسه، دموع وحدته، أو ارتباكه أمام الحياة. كل ما نراه هو “النسخة الأفضل”: زاوية مدروسة، فلتر ناعم، خلفية مثالية، وكلمات تلمّع السرد حتى يبدو وكأنه مشهد من فيلم لا حياة.

لكنّ هذا “المحتوى المنتقى بعناية” لا يُخبرنا بالحقيقة. إنه لا يُخبرنا أن وراء الابتسامة جهدًا، وربما حزنًا. لا يُخبرنا أن الصورة التي حصدت آلاف الإعجابات قد كلفت صاحبها مئة محاولة، وكمية قلق لا تُرى.

فالمراهقون اليوم لا يعيشون فقط في واقعهم، بل في واقع آخر موازٍ تخلقه السوشيال ميديا. مقارنة يومية مع “أجسام مثالية”، “علاقات حالمة”، “نجاحات خارقة” و”أناقة لا تخطئ”.

في ظل هذه المعايير المصطنعة، يشعر كثيرون منهم أنهم “لا يكفون، لا يُشبهون، لا يستحقون”. تتضاعف الضغوط النفسية، ويتنامى الإحساس بالنقص، لا لأنهم أقلّ، بل لأنهم يقارنون أنفسهم بـ”أشباحٍ” لا وجود لها إلا خلف الشاشات.

توقف الناس عن مشاركة الحقيقة، وصاروا يصممون حياتهم كما يُصمم منتَج. كل منشور هو حملة تسويق للذات، للنجاح، للجمال، للسعادة.

وفي خضمّ هذا التسويق المستمر، ضاعت الحدود بين الواقع والخيال، بين “من أنا” و”ما أُظهره عني”. إننا لا نرى الناس، بل نرى ما يريدوننا أن نراه. وهذا فارق جوهري.

العودة إلى الذات:

الحل ليس الهروب من السوشيال ميديا، بل التصالح معها. أن نتعلّم كيف نستخدمها دون أن نسمح لها أن تُستخدم ضدنا. أن نتابع من يُلهمنا لا من يُقلقنا. أن نفرّق بين الحقيقة والزيف، بين “المحتوى الجميل” و”الحياة الجميلة”. فلا تُقارن بدايتك بوسط أحد.

اسأل نفسك: هل هذا المنشور يُفيدني أم يستنزفني؟
اخرج للواقع: تكلّم، تحرّك، عِش.
دع دائرة تأثيرك تشمل أناسًا يشبهونك، لا يُنافسونك.
الواقع الإنساني يكمن في النقص.

فلنتذكر أن الحياة الحقيقية لا تحتاج فلتر. وأن ما يجعلنا بشرًا هو هشاشتنا، تعقيدنا، محاولاتنا، وسقوطنا وقيامنا مرارًا. تابعوا من يذكّركم بذلك. من يُشارككم التجربة لا العرض، والطريق لا فقط النهاية. فلا تكن صورة جميلة تُعجب الناس، بل كن حياة حقيقية تُرضي نفسك.

وسوم: