لا منتصر في روما.. ولا فائز في طهران

محمد الراشد
رغم محاولات طهران الظهور بمظهر الطرف المتماسك في مفاوضات روما الأخيرة مع واشنطن، فإن الواقع الجيوسياسي يشي بعكس ذلك ، فإيران تقف اليوم عند مفترق طرق ، حيث يتقاطع تصعيدها النووي مع تراجع ميداني لحلفائها الإقليميين ما جعل خياراتها أكثر ضيقًا وأدواتها أقل فاعلية.
طوال عقدين بنت إيران نفوذها على فكرة “محور المقاومة” الممتد من طهران إلى بيروت، مرورًا ببغداد ودمشق وصنعاء. لكن هذا المحور لم يعد كما كان ،
ففي العراق يواجه “الإطار التنسيقي” ضغوطًا متزايدة من حراك شعبي يريد تقليص النفوذ الإيراني ، وفي سوريا تستعيد بعض العواصم العربية حضورها تدريجيًا فيما تواجه إيران ضربات إسرائيلية متصاعدة تستهدف مواقعها الحساسة دون رد حقيقي ، كذلك في لبنان يعيش “حزب الله” لحظة حرجة حيث تتراجع شعبيته في الداخل، وتتصاعد الضغوط الدولية عليه ، أما في اليمن فالحوثيون باتوا ورقة مساومة أكثر من كونهم ذراعًا طليقة بيد إيران وسط محادثات إقليمية تهدف لتقليص نفوذهم ، و في ضوء ذلك تبدو إيران رغم ما تملكه من أدوات ضغط ، فاقدةً للقدرة على ترجمة هذه الأدوات إلى مكاسب حقيقية على طاولة المفاوضات.
في روما واصلت إيران التشبث بخطاب “السيادة النووية”، رافضة تعليق تخصيب اليورانيوم أو القبول بأي اتفاق مؤقت ، لكن هذا التشدد لم يكن نابعًا من قوة موقف بل من حاجة داخلية لصناعة توازن وهمي ، فالوضع الاقتصادي في الداخل الإيراني هشّ والشارع مستنزف والإصلاحات السياسية مؤجلة، ما يجعل طهران بحاجة دائمة إلى “عدو خارجي” لتصدير الأزمة ، ورغم كل ذلك فإن إيران تدرك أنها عاجزة عن الذهاب بعيدًا في التصعيد لأنها لا تحتمل تبعات مواجهة عسكرية أو حصار اقتصادي أوسع.
الإدارة الأمريكية رغم انشغالها بملفات عالمية تدرك أن إيران ليست في موقع مريح ، ولهذا تتعامل مع المفاوضات ببراغماتية محسوبة ، فهي تريد اتفاقًا يُهدئ المنطقة ولا يمنح طهران مكافآت مجانية ، ولذلك ورغم حديث ترامب عن “أخبار جيدة قريبًا” فإن واشنطن تضغط للحصول على تنازلات حقيقية مقابل أي رفع للعقوبات.
الواقع يؤكد بأن الجغرافيا السياسية لم تعد كما كانت في العقد الماضي ، “محور المقاومة” لم يَعد إطارًا صلبًا بل شبكة مترهلة من الفاعلين المأزومين و لم يعد بإمكان طهران الاعتماد على دعم ميداني من حلفائها بل أصبح لزامًا عليها أن تدفع أثمانًا باهظة للمحافظة على الحد الأدنى من نفوذها في الإقليم ، بل حتى الخطاب الأيديولوجي الذي شكّل هوية هذا المحور تآكل مع تصاعد مطالب الشعوب في الداخل بالمعيشة والكرامة والعدالة، وليس الشعارات.
السعودية والإمارات لم تعودا جزءًا من معادلة الصراع الإيراني ، بل صارتا شريكين في هندسة توازن إقليمي جديد ، مبادرات التهدئة وعودة العلاقات مع طهران ليست تعبيرًا عن قبولٍ بالنفوذ الإيراني، بل محاولة لسحب ذرائع المواجهة وفرض الاستقرار كأولوية ، هذا التحول جعل إيران في زاوية ضيقة فهي لا تستطيع أن تتقدّم في التفاوض دون خسارة أوراق كانت تفاخر بها، ولا أن تنسحب دون إثبات عجزها عن تغيير الواقع الإقليمي.
في المحصلة إيران تفاوض اليوم تحت ضغط داخلي هائل وواقع إقليمي لم يعد يمنحها رفاهية المناورة ، والخشية في طهران ليست من فشل المفاوضات فحسب بل من أن يكتشف الجميع أن أوراقها وإن كانت كثيرة، لم تعد رابحة.
وإذا لم تستوعب طهران التغيرات المتسارعة في الإقليم فإنها قد تجد نفسها قريباً تفاوض من موقع الأضعف ، وهكذا فإن تجاهل المتغيرات لن يوقف مسارها وحسب بل سيجعل طهران تدفع ثمن العناد مرتين ، مرة على طاولة التفاوض وأخرى في عمق نفوذها المتآكل.