شاكر بن يحمد: العدسة التي تكشف النور من العتمة

د.محمد العرب
رئيس مركز العرب للرصد والتحليل
حين نُحدّث العالم عن الإخراج السينمائي في المنطقة العربية، غالباً ما تتجه الأضواء نحو مراكز الإنتاج التقليدية في مصر أو لبنان. ولكن ثمة عدسة تمرّدت على هذا الاحتكار، عدسة تونسية شقت طريقها عبر رمال البحرين وصحراء الخليج العربي ، لتصنع مشهداً بصرياً متقناً لا يقل روعة عن مشاهد هوليود، بل يحمل نكهة فريدة من الجنوب المتوسطي. تلك العدسة يملكها شاكر بن يحمد، المخرج الذي لا يصور فقط، بل يكتب الضوء ويؤلف الإحساس ويغزل الواقعية بالسحر البصري.
شاكر ليس مخرجاً عابراً في مهرجانات أو مجرد اسم يظهر خلف شارة النهاية، بل هو توقيع بصري مميز يُقرأ من أول مشهد. منذ أكثر من عشرين عاماً، وهو يصقل مشروعه الفني، لا كمجرد مهنة، بل كحياة كاملة تُستثمر في كل زاوية، كل ظل، كل حركة كاميرا.
ما يثير الدهشة في تجربة شاكر، أنه لا يهاب المزج بين تقنيات هوليودية خالصة، وبين روح شرقية دافئة. هو قادر على بناء مشهد يبدو كما لو أنه من إنتاج كريستوفر نولان، لكنه ينبض بروح نجيب محفوظ. في عمله الرائع (One More Day) الذي نال جائزة في مهرجان أبوظبي، قدّم قصة محلية بنكهة عالمية، مظهراً قدرة استثنائية على تحويل لحظة إنسانية بسيطة إلى قطعة فنية مشبعة بالمفارقة والدهشة.
لكن ما يجعل شاكر بن يحمد مختلفًا عن بقية مخرجي العالم العربي، هو امتلاكه حساً نادراً في تحويل التحديات إلى أدوات، والخسارات إلى جمال. في إحدى الحوادث أثناء تصويره لمسلسل (دفعة القاهرة) اشتعلت النيران في قدمه، لكن رغم الألم والخطر، أصر على إكمال المشهد، في مشهد بطولي خارج الكاميرا يُشبه أفلامه الواقعية المتقنة. هذا المشهد لوحده يختصر فلسفة شاكر: الفن لا يُنجز براحة، بل بالشغف والدم والعرق والضوء.
تتوالى إنجازات شاكر، لا كأرقام تزين السيرة الذاتية، بل كمشاهد تملأ الذاكرة البصرية. في (كف ودفوف) لعب دور المنتج التنفيذي، ونجح العمل في حصد جائزة أفضل مسلسل عربي، في وقت كانت المنافسة فيه شرسة، والأسواق مزدحمة بالأعمال المكررة. لكنه، وكما هي عادته، لا يُنتج إلا المختلف. حتى في فيلمه المثير (66.6 FM) الذي يتناول التضليل الإعلامي، قدّم معالجة فلسفية ومعاصرة لموضوع قد يبدو تقليدياً، لكنه جعله يصرخ على الشاشة بقوة جمالية.
اللافت أن الغرب بدأ يلتفت إلى هذا الاسم القادم من الجنوب. ففي عام 2015، اختير شاكر ضمن أفضل 10 مديري تصوير للأفلام القصيرة في ميلانو، وهو ما يعبّر عن تقدير عالمي لموهبته. هذا الاختيار لم يأتِ مجاملة ولا استكمالاً لحصة التنوع، بل لأن عدسته تتحدث لغة يفهمها العالم: لغة السينما النقية، التي لا تحتاج لترجمة.
إن قارنت شاكر بن يحمد بأسماء هوليودية، فربما تراه قريباً من (روجر ديكنز) في عمق الإضاءة، ومن (أليخاندرو إيناريتو) في عبثية التكوين الحركي، ومن (دنيس فيلنوف) في صمته الساحر الذي يقول كل شيء. لكنه في النهاية شاكر… لا نسخة، لا تلميذ، لا محاكٍ، بل صوت فريد، عدسة ذات توقيع لا يتكرر.
في زمن تتشابه فيه الأعمال ويُعاد إنتاج الأفكار، يتفرّد شاكر بروح العاشق القديم للفن، لا يقف عند حدود السوق أو استحقاقات الشهرة، بل يغوص في العمق… حيث الحكاية الحقيقية، حيث الإنسان، حيث الجرح. تجاربه الممتدة بين الفيلم القصير، الوثائقي، الدراما، والفيديو كليب، جعلت منه مخرجاً متعدد اللغات البصرية، يحاكي العين، ويُفاجئ العقل، ويهمس في الأذن: هذا العمل ليس صورة فقط… بل إحساس.
حين يقرر شاكر العمل على مشروع، لا يكتفي بالإخراج، بل يدخل في تفاصيل الإنتاج، في اختيار النص، في تكوين الكاست، في إدارة المونتاج، بل حتى في تصميم الصوت. هذا الالتحام الكلي بالعمل الفني هو ما يمنحه تلك الصيغة الكاملة التي تشبه مقطوعة موسيقية لا نشاز فيها. قد يبدو للبعض أن شاكر مخرج نخبوي، لكنه في الحقيقة شعبي عميق، يتكلم لغة الناس دون أن يُسقط جماليات الفن.
ربما لم تأخذ السينما العربية حقها في التقدير العالمي، لأن كثيراً من صُنّاعها كانوا أسرى الواقع، لا فنانين يحولون هذا الواقع إلى رؤيا. لكن شاكر بن يحمد هو الجسر بين الواقعية والشعر، بين الصناعة والإلهام، بين البساطة والعظمة. من البحرين إلى تونس، ومن دبي إلى أوروبا، يتنقل شاكر كمن يحمل حقيبة مليئة بالأفكار غير المصورة بعد، كأن العالم كله ورشة مفتوحة لمشهده القادم.
وفي زمن تتبدل فيه المفاهيم حول السينما، وتشتد فيه المنافسة مع الذكاء الاصطناعي، والمحتوى المولّد آليًا، يظل شاكر نموذجاً لمخرج لا يمكن استنساخه… لأنه ببساطة لا يُشبه إلا ذاته.
إذا أردت أن ترى البحرين كما لم ترها من قبل، شاهد عدسة شاكر. إذا أردت أن ترى الألم كقصيدة، شاهد أعماله. وإذا أردت أن تراهن على مخرج عربي سيقف قريباً على منصات الأوسكار أو مهرجان كان، فضع رهاناتك على شاكر بن يحمد… لأنه لا يعمل ليُرى، بل ليُخلَّد.