عبء الإثبات في النظام القضائي السعودي: ليس دائمًا من مسؤوليات المدعي

عبء الإثبات في النظام القضائي السعودي: ليس دائمًا من مسؤوليات المدعي

المحامي د. عبداللطيف عبدالله الخرجي

أستاذ القانون في كليات الأصالة- الدمام

مستشار قانوني في مكتب سعد القحطاني للمحاماة

 

من المبادئ الراسخة في الفقه الإسلامي والقضاء السعودي أن “البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر”، وهي قاعدة أصلية في الإثبات، تعني أن من يدعي شيئًا خلاف الظاهر أو خلاف الأصل يقع عليه عبء إثبات ما يدعيه· إلا أن هذه القاعدة ليست مطلقة كما قد يتصور البعض، بل إنها تخضع لاستثناءات هامة تؤثر على سير الدعوى القضائية وتوزيع عبء الإثبات بين الخصوم·

أكد نظام المرافعات الشرعية السعودي على مبدأ تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في عدد من مواضعه، حيث نصت المادة (1) منه على أنت “تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية، وفقاً لما دل عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة، وتتقيد في إجراءات نظرها بما ورد في هذا النظام·”

كما كرّس نظام الإثبات الصادر عام 2021 ذات النهج الوارد في أحكام الشريعة، حيث نصت المادة (3) منه على أن “البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر·”، وهو ما يعكس التزام النظام بمبدأ عام ومستقر في الإثبات، مع مراعاة المرونة في التطبيق وفقاً لظروف كل دعوى على حدة·

الواقع العملي: انتقال عبء الإثبات

يُظهر الواقع القضائي في المملكة العربية السعودية أن عبء الإثبات لا يظل ثابتًا على عاتق المدعي طيلة مراحل الدعوى، بل قد ينتقل إلى المدعى عليه في حال قدّم دفوعًا تنطوي على ادعاءات تخالف الأصل أو الظاهر· ويأتي هذا متسقًا مع ما قررته المادة (3) من نظام الإثبات، والتي نصت على أن: “البينة لإثبات خلاف الظاهر، واليمين لإبقاء الأصل·”، وهو ما يتجلى بوضوح في عدد من القضايا الحقوقية والمالية، حيث يُراعى مبدأ توازن الأعباء في الإثبات وفقًا لطبيعة الدعوى وظروفها· فعلى سبيل المثال، إذا أقام شخص دعوى أمام المحكمة العامة يطالب فيها شخصًا آخر بمبلغ مالي قدره عشرة آلاف ريال، ويزعم أن المبلغ قُدم كقرض حسن، فإن عبء الإثبات في هذه المرحلة يقع على المدعي، وعليه أن يقدم ما يثبت وجود هذا القرض، سواء من خلال مستندات أو شهود أو قرائن·

لكن إذا أجاب المدعى عليه بأنه استلم المبلغ بالفعل، إلا أنه سدده لاحقًا، فإن موقفه هذا يُعد إقرارًا جزئيًا بالدين مقرونًا بدفع يُخالف الأصل، وهو السداد· وهنا، ينتقل عبء الإثبات إلى المدعى عليه، لأنه يدعي واقعة جديدة (السداد) بخلاف ما هو ظاهر، فالأصل بقاء الدين في الذمة حتى يُثبت خلافه·

القواعد القضائية في الإثبات

هذا التغير في مراكز الخصوم يؤيده التوجه القضائي في المملكة، حيث تعمل المحاكم على مراعاة الظاهر والأصل والقرائن المحيطة بالدعوى عند توزيع عبء الإثبات· فإذا عجز المدعى عليه عن إثبات دعواه (أي واقعة السداد في المثال السابق)، فإن المحكمة لها أن تعرض اليمين على المدعي، بوصفه منكرًا لما يدعيه خصمه·

كما منح نظام الإثبات المحكمة سلطة تقديرية في إدارة عبء الإثبات، حيث نصت المادة (96) منه على أنه ” يجوز أن توجه اليمين في الحقوق المالية، وفي أي حالة تكون عليها الدعوى·”، مما يُعد وسيلة لتجاوز عجز الخصم عن تقديم الدليل· وفي السياق ذاته، قررت المادة (98) أن ” كل مـن وجهـت إليـه اليمين فحلفها حُكم لصالحه، أما إذا نكل عنها دون أن يردها على خصمه حكم عليه بعد إنذاره، وكذلك من ردت عليه اليمين فنكل عنه”، وهو ما يمنح القاضي مرونة في تحديد الطرف المكلّف بالإثبات بناءً على سير الدعوى ومراكز الخصوم، تحقيقًا للعدالة وضمانًا لحسن سير الإجراءات القضائية·

أهمية فهم المراكز القانونية

من هنا تبرز أهمية أن يعي الخصوم، سواء مدعين أو مدعى عليهم، طبيعة مراكزهم القانونية في الدعوى، ومدى ارتباطها بعبء الإثبات· فالمدعى عليه ليس مجرد طرف سلبي ينكر ما يقال بحقه، بل قد يجد نفسه مطالبًا بالإثبات إذا بادر بادعاء يخالف الظاهر أو الأصل·

ختامًا، يُمكن القول إن القضاء السعودي يتبنى نهجًا متوازنًا في مسألة عبء الإثبات، لا يغلّب طرفًا على آخر، بل يوزع العبء بحسب الوقائع والمواقف في كل دعوى، مستندًا إلى قواعد شرعية راسخة، ومنظمًا عبر نصوص نظام المرافعات الشرعية، بما يحقق العدالة ويمنع التعسف في الادعاء أو الدفع·