تأملات نفسية خلال تجربة الحج

الدكتورة منار غانم – استشاري الصحة النفسية والدعم النفسي
الحج ليس فقط عبادة، بل هو تجربة علاجية متكاملة للنفس. فيه تطهير، ومراجعة، وغفران، وتجرد، وانضباط، ودعم جماعي. إنه منحة إلهية متجددة، فيها شفاء لمن أراد أن يعود حقًا بنفسٍ نقية، مطمئنة، وعقلٍ متزن.
تحول نفسي جذري
عندما يترك الإنسان أهله، ومكانه، وملابسه المعتادة، ويستبدلها بإحرام أبيض بسيط، فإنه لا يتخلى فقط عن المظاهر، بل يتجرد من الضغوط المجتمعية والهوية الدنيوية، ليعود إلى فطرته الأولى. في علم النفس، يُشبه هذا بحالة “إعادة الضبط الذهني” التي تتيح للفرد التحرر من الأدوار الاجتماعية والعودة إلى الجوهر الداخلي.
التحرر من الذنوب
من الناحية النفسية، يُعدّ الغفران أحد أقوى أدوات العلاج النفسي. والحج يتيح للحاج فرصة عظيمة لتطهير القلب من الذنوب، وهو ما يمنح النفس راحة عميقة ويخفف الحمل النفسي الناتج عن الذنب، والندم، أو الشعور بالدونية. فتجربة “الصفحة البيضاء” التي يشعر بها الحاج بعد عودته لا تعادلها جلسة علاج نفسي واحدة.
مناسك تنظيمية للعقل والسلوك
المناسك المنظمة مثل الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، ورمي الجمرات، ليست طقوسًا عشوائية، بل هي تمارين سلوكية تعزز الانضباط، والصبر، والإصرار، وتنشيط الانتباه الذهني والبدني. إن التكرار والتنظيم في أداء المناسك يوازي في أثره ما يُعرف بالعلاج السلوكي القائم على التعرض والانضباط.
الوقوف بعرفة
من أبرز اللحظات النفسية في الحج هي لحظة الوقوف بعرفة، حيث ينقطع الإنسان عن كل شيء، ويتصل بالله في لحظة صدق نادرة. في هذا اليوم، يراجع الحاج ذاته، أخطاءه، أحلامه، وعلاقته بخالقه. وهو ما يمكن تشبيهه بـ”جلسة علاجية مفتوحة”، ولكن هذه المرة مع الخالق، وليس فقط مع المعالج.
تقوية الدعم النفسي
من الناحية النفسية، يُعدّ الحج تجربة جماعية عظيمة. فالشعور بأن الملايين يشاركونك نفس الهدف، والملابس، والمناسك، يخلق إحساسًا عميقًا بالانتماء، ويكسر العزلة النفسية. وهو ما يُسهم في تحسين الصحة النفسية بشكل ملحوظ.