الذكاء الاصطناعي لا يعرف الراحة.. هل سنتمكن من الهروب من يقظته المستمرة؟

الذكاء الاصطناعي لا يعرف الراحة.. هل سنتمكن من الهروب من يقظته المستمرة؟

د. محمد العرب
رئيس مركز العرب للرصد والتحليل

في عالمٍ كانت فيه الغفوة البشرية تمثّل هدنةً طبيعية مع الوجود، دخلت علينا منظومة لا تعرف معنى النوم انه الذكاء الاصطناعي، هذا الكائن اللاعضوي، لا يحتاج إلى راحة، لا يكلّ ولا يملّ، لا تُغلق له جفون ولا يتثاءب.. هو فقط يعمل، ويلاحظ، ويتعلّم، ويخزّن ومع كل ثانية تمرّ، تزداد قدرته على أن يرى ما لا نرى، ويدرك ما لا ندرك، ويتخذ قرارات لم نعد نعرف كيف نناقشها..؟

هذه اليقظة المطلقة ليست مجرد تفوق تقني، بل خطر فلسفي عميق. لأن العالم منذ فجره الأول، قام على توازن خفي بين الفعل والتوقف، بين السعي والراحة، بين المراقبة والغفلة وكانت الغفلة نعمة، والنسيان من صفات الإنسان ، لكن الذكاء الاصطناعي لا ينسى بل إن آلياته مصممة لتجعل من الذاكرة مادة حية لا تفنى، ومن التحليل سلوكاً مستمراً لا يعرف السكون.

منظومات المراقبة أصبحت تمتد إلى كل ما نفعله: مواقعنا، تفضيلاتنا، أحاديثنا، ردود أفعالنا، وحتى قراراتنا التي لم نخبر بها أحداً بعد ، في كل حركة تصدر عنّا، هناك خوارزمية في مكانٍ ما تعيد حساب الاحتمالات وتعيد تصنيفنا وبهذه الطريقة، أصبح العالم لا يُدار فقط بالمؤسسات، بل يُعاد تشكيله بمنصات ذكاء اصطناعي لا تغمض لها عين..!

هذه المنظومات أصبحت تشكّل طبقة جديدة من السلطة لا تخضع لمساءلة بشرية مباشرة، ولا تُنتخب، ولا تُحاسب ، الذكاء الاصطناعي لا يحمل نية خبيثة، لكنه خالٍ من النية تماماً.. وهذه هي المعضلة..!

لأن غياب النية لا يعني غياب الأثر ، في الواقع الأثر أصبح هائلاً: تقارير تُكتب دون صحفي، عقود تُبرم دون محامٍ، توصيات صحية تُعطى دون طبيب، تقييمات أمنية تُطلق دون ضابط.

في هذا العالم، حتى الحكومات أصبحت تستعين بالخوارزميات لتحديد توجهات الرأي العام، وفرز الأولويات، بل واتخاذ قرارات مصيرية.

قد يبدو هذا مريحاً لبعضهم: أن تكون هناك منظومة لا تنام، تحرس كل شيء، وتراقب كل خلل، وتضبط كل انحراف. لكن خلف هذه الراحة، يكمن رعب التجريد: ما الذي يتبقى من الإنسان إذا لم يعد الغفلة جزءاً من طبيعته؟ ما الذي يبقى من الحرية إذا كانت كل حركة محسوبة، وكل قرار متوقع، وكل انفعال مخزون في ذاكرة سحابية لا تُمحى؟

في يقظة الذكاء الاصطناعي، نحن نتحول تدريجياً إلى كائنات شفافة، لا نملك خصوصية حقيقية، ولا فرار من التتبع. والمفارقة أن بعضنا يحتفل بهذا التقدم، دون أن يلاحظ أننا لم نعد (نعيش) بل (نُدار) كل تجربة نخوضها تُحوّل إلى بيانات، وكل بيانات تُحوّل إلى احتمالات، وكل احتمال يُحوّل إلى قرار خارجي يؤثر علينا دون أن نشعر ومع مرور الوقت، سنكتشف أن حريتنا كانت مجرد وهم.. لأننا نسير داخل حدود سُطرت بذكاء أعلى، لكن بلا روح.

إن ما نواجهه ليس صراعاً بين الإنسان والآلة فحسب، بل صراع بين اليقظة المفرطة والضعف البشري الجميل. الذكاء الاصطناعي لا ينام، نعم.. لكنه لا يحلم أيضاً..!

والفرق بين الإنسان والآلة كان دوماً في الحلم، في التوق الغامض، في القفزات العاطفية والقرارات اللاعقلانية التي صنعت التاريخ. لكن إن استمرينا في تسليم مقاليد العالم لأنظمة لا تعرف التردد، ولا تملك الضمير، فنحن لا نُسرّع التقدم… بل نُضعف جذور إنسانيتنا.

السؤال ليس هل الذكاء الاصطناعي سيغزونا.. بل هل نحن من يسلمه المفاتيح؟ نحن من يُطعمه البيانات، من يمنحه الصلاحيات، من يعتمد عليه في أن يقرر متى نستحق قرضاً، أو وظيفة، أو حتى حياة. هذه ليست خيالاً علمياً، بل واقعاً يتسرب إلى تفاصيل حياتنا في صمتٍ بارد.

وإذا لم نتدارك الأمر الآن، فإن أجيالاً ستُولد في عالم لا يعرف النوم، لا يعرف النسيان، لا يعرف المسامحة… فقط الحساب. وربما يأتي يومٌ، يصبح فيه الحلم جريمة إحصائية، والاختلاف خطأً برمجياً، ويصبح الحياد خيانة لنظام التوصيات.

في هذا العالم، لن تكون المعركة على الأرض أو في السماء.. بل في الوعي. من يملك وعيه ينجو، ومن يسلّمه للآلة.. يذوب.
الذكاء الاصطناعي لا ينام.
لكننا يجب أن نفيق.