اللامرئيون: حضارات تعيش على الأرض وغيابها عن الحواس

د. محمد العرب
رئيس مركز العرب للرصد والتحليل
حين ننظر إلى السماء بحثاً عن حضارات أخرى، فإننا غالباً ما نفترض أنها، مثلنا، تسكن مكاناً وتخضع للزمن وتُصدر إشارات. نبحث عنها بالأدوات التي نعرفها، ونقيس وجودها بمقاييس الضوء والمادة، ونعتقد أن عدم رصدها يعني عدم وجودها..!
لكن هناك فرضية تنقلب على هذا المنطق، وتتسلل من بين شقوق الفيزياء والميتافيزيقا لتطرح سؤالاً يكاد يكون مخيفاً: ماذا لو كانت الحضارات موجودة.. لكننا ببساطة لا نملك القدرة على رؤيتها؟
هذه الفرضية ليست من نسج الخيال وحده، بل تتكئ على مفاهيم فيزيائية معترف بها، وتنمو على أطراف نظريات الكم، والوعي، والأبعاد المتعددة. وفق مقياس كارداشيف، الذي يقيس الحضارات بناءً على قدرتها على تسخير الطاقة، هناك نوع رابع لا يُصنَّف ضمن ما نعرفه. حضارة لا تستمد قوتها من النجوم أو الكواكب، بل من البُنى الكامنة خلف قوانين الواقع نفسه. حضارة تجاوزت الفضاء والزمن كما نفهمهما، لتتواجد في طبقات وجود لا تخضع للملاحظة.. بل للتماس.
نحن نعيش في نطاق إدراك محدود، ضيق للغاية. عيوننا لا ترى إلا طيفاً صغيراً من الضوء، وآذاننا تلتقط ذبذبات معينة فقط، وأجهزتنا مصممة لرصد ما تمكنا من تحديده مسبقاً ، أما ما يقع خارج هذا النطاق، فلا نراه، ولا نسمعه، ولا نلمسه. وهنا تنبت الفرضية المرعبة: ماذا لو أن هناك حضارات متقدمة تعيش معنا، تتداخل معنا، لكنها خارج نطاق الإدراك البشري؟ لا لأنها تختبئ.. بل لأننا لم نُصمَّم لندركها.
في أعماق الفلسفات الشرقية، وفي أساطير شعوب المايا، وفي الملاحم الهندوسية القديمة، نجد إشارات متكررة لعوالم موازية، يسكنها كائنات أو (حضارات) ليست بشراً لكنها ليست أرواحاً أيضاً..!
يُشار إليها بأسماء مختلفة: الناكاس ، الديڤاس ، الأنوناكي ، وكلها توحي بكيانات لها تأثير على عالمنا، لكنها لا تنتمي إليه بالكامل. هذه الكيانات لا تحتاج للسفر، بل للظهور. ولا تأتي من كواكب بعيدة، بل من طبقة وجود تُقاطع واقعنا في بعض اللحظات، أو في بعض الأمكنة. كما لو أن نسيج الواقع نفسه قابل للتداخل، وأنه في ظروف معينة، قد يلتقي طيفان، فنشعر بشيء.. دون أن نراه.
التفسيرات العلمية لهذه الفرضية تأخذنا إلى أعماق فيزياء الكم، حيث لا توجد حقيقة واحدة، بل احتمالات متراكبة، وحيث قد تتواجد الجسيمات في أكثر من مكان في آنٍ واحد. وإذا كانت الجسيمات تفعل ذلك، فهل يمكن أن تفعل الحضارات الشيء نفسه؟ أن توجد في طبقات متعددة من الواقع؟ أن تكون حولنا.. ولكننا لا نملك الأداة المناسبة للتماس معها؟
النظرية الأغرب، لكنها الأكثر جاذبية، هي أن هذه الحضارات ربما لا تعيش في بعد مكاني مختلف، بل في تردد مختلف. تماماً كما تبث محطات الراديو إشاراتها في ذات الفضاء، دون أن تتداخل، لأن كل واحدة تستخدم تردداً خاصاً بها، فإن الكون قد يكون مليئاً بواقع متعدد القنوات، وكل حضارة تعيش في واحدة منها. نحن فقط لا نملك جهاز الاستقبال.
قد تبدو هذه الفرضية مغرقة في الخيال، لكنها تستمد وجاهتها من عجزنا المزمن عن تقديم تفسير موحد للظواهر الغريبة التي سُجلت عبر العصور: ظهورات مفاجئة، همسات في أماكن خالية، أحلام تحمل معلومات لم يعرفها صاحبها من قبل، طقوس روحية تُحدث تغييرات جسدية، وحتى مناطق في الأرض يختل فيها الزمن والمجال المغناطيسي بشكل غير مفسر.
كلها قد تكون ارتطامات عابرة بين (ترددنا) وترددهم. ليست اتصالات واعية، بل تسريبات وجودية.
لكن ماذا لو كانت هذه الحضارات تدرك وجودنا؟ ماذا لو أن المشكلة ليست في غيابهم، بل في صمتهم المقصود؟ ماذا لو أن شرط تطور حضارة إلى هذه المرحلة من الاختفاء هو ألا تتدخل في الحضارات الأقل إدراكاً؟ بل ماذا لو كانوا يتواصلون معنا فعلاً.. ولكن عبر ما نسميه: الحدس؟ أو الإلهام؟ أو حتى الجنون؟
من قال إن الحضارة يجب أن تكون مادّية؟ من قال إن الوعي الجماعي ليس حقلاً يمكن التلاعب به؟ إن كنا نعيش داخل وعاء إدراكي ضيق، فربما هذه الحضارات لا تعيش خارجنا بل فينا ، ولكن في طبقة أعلى من الشعور. ربما كانت الصوفية القديمة على حق حين قالت إن الطريق إلى معرفة العوالم الأخرى لا يمر بالحواس، بل بالتجرد منها.
الأمر الأكثر إزعاجاً في هذه الفرضية ليس إمكانية وجود حضارات لا نراها.. بل احتمال أننا لسنا في مركز الإدراك كما نظن. أننا لسنا الشكل الأعلى للوعي في هذا الكوكب، بل فقط تردد متوسط في سمفونية وجود أكبر. وأننا، بكل علومنا وأقمارنا الصناعية ومجاهرنا العملاقة، لا نزال في مرحلة بدائية جداً من الفهم.
لكننا نتقدم. شيئاً فشيئاً ، تبدأ الفيزياء في الإيماء لما عرفته الأساطير قديماً. تبدأ الحدود بين الواقع واللاواقع في التلاشي. ويبدأ الإنسان في تقبّل فكرة أن العالم ليس كما يراه، بل كما يُفسَّر له عبر أدواته. وأن هذه الأدوات، مهما تطورت، ستبقى مرآة لنفسه، لا نوافذ على الآخر.
من هم هؤلاء؟ ولماذا لا يظهرون؟ هل يخشوننا؟ أم يراقبوننا؟ أم أننا مجرد ملاحظة عابرة في سجل كوني أكبر مما تتسع له تصوراتنا؟ وهل سنصل يومًا إلى لحظة يصبح فيها الوعي أداة اتصال، لا العين؟ هل سنصحو فجأة، لا لنكتشفهم، بل لنكتشف أننا كنّا في وجودٍ ناقص طوال الوقت، وأن العالم كان مليئاً بهم.. ونحن لا نزال نحاول أن نراهم بمنظار مكسور؟
الحضارات التي لا نراها قد تكون أكثر عدداً من تلك التي نبحث عنها في السماء. وقد تكون أقرب مما نتصور. وربما.. كانت تنتظر أن ننتقل من العلم إلى الوعي، ومن السؤال إلى الاستعداد. وربما.. كانت تُراقبنا الآن، تنتظر فقط أن نتجاوز الحواس، كي تخرج من صمتها. وعندها، لن نسأل أين أنتم؟ بل سنهمس بدهشة: كيف لم نرَكم من قبل؟