الإسلامية في الماضي.. والسلفية في الحاضر: في إشكالية التشابه بين الحركات الإسلامية

تقوم هذه المساهمة على فرضية تفسيرية واحدة واضحة: «الإسلاموية؛ ونقصد بها تحديدًا (الإسلام السياسي) بمفهومه الدارج حزبيًا وتنظيميًا. تأزمت لأنها مشروع تحرك ولم يتكيف، بينما السلفية استمرت لأنها لم تغادر أصلًا موقعها السلبي العقدي، ولم تحمل مشروعًا قابلًا للفشل أو التغيير».
المفارقة بين «السقوط» و«النجاة» لا يمكن أن تُؤخذ كحكم قيمة جاهز، بل يجب أن تُفهم بوصفها نتيجة لاختلاف بنيوي جذري في طبيعة كل من الإسلاموية والسلفية.
فالإسلاموية، ليست مجرد تيار دعوي أو احتجاجي، بل بُنيت منذ نشأتها كـ«مشروع»: مشروع يرى أن الإسلام لا يكتمل إلا بإعادة تشكيل الدولة، وبناء الأمة من جديد، واستئناف التاريخ من حيث انقطع.
لهذا، دخلت الإسلاموية ـ بجميع فروعها ـ في صراع مع الزمن: فهي تريد استعادة الخلافة، أو إقامة الدولة الإسلامية، أو تطبيق الشريعة، أو تطهير المجال العام من التغريب والعلمنة. وهذا كله يضمن الهدف: العودة إلى نقاء الأصول، ومحاكاة التجربة.
الفارق بين الاسلام السياسي والسلفية، أن الإسلاموية تسعى لإدراك الأصل وتجسيده حديثا، ليس بمحاكاة جيل بعينه، ولا زمن لا غيره، بل باستقاء روح الأصل، ومعنى التأسيس.
لكن المشروع لا يعيش في النوايا، بل في صلابة الواقع، وهو ما جعل الإسلاموية، حين واجهت الدولة الحديثة، تفشل لأنها كانت مفرطة في الشمول ومحدودة في الأدوات.
لقد أرادت الإسلاموية أن تدخل الزمن المعاصر دون أن تُبلل أدواتها بالواقعية، وأن تسيطر على الدولة دون إعادة تعريف فهمها للدين داخل الدولة.
تتحرك، لكنها لا تتكيف. تُقدم نفسها بوصفها البديل الكامل، لكنها ترفض التدرج، أو قبول الهامش، أو التنازل المرحلي. تتكلم عن الشورى كبديل عن الديمقراطية، وحتى عندما قبلت الديمقراطية ظلت ترفض التعدد داخل صفها. تُعلي من الديمقراطية ثم ترتبك أمام آلياتها.
تُطالب بتطبيق الشريعة، ثم لا تقدم مشروع قانون واحد متماسك خارج النصوص. وهذا ما يجعل الإسلاموية مثالًا على «المشروع الذي لم ينجُ من مشروعه»، أي أنها انهارت بفعل الرغبة ذاتها التي حركتها، لأنها لم تمتلك بنية تتيح لها التكيف، ولا أفقًا يقبل المراجعة.
في المقابل، تظهر السلفية التقليدية بوصفها «تيارا لا يُختبر»، لأنها لم تدخل أصلاً في رهانات المشروع.
هي لم تطلب الحكم، ولا سعت إلى التمكين، بل حصرت نفسها في بنية تعاقدية طقوسية تطلب من المسلم: أن يصلي، أن يلتزم بظاهر السنة، ألا يتكلم في السياسة، أن يطيع الحاكم، وأن يحذر من الأحزاب والبدع والمظاهرات والخروج. هي مجرد حياة تخاف من الضلال والخروج عن الجادة.
ومن ثم، لم تواجه السلفية أي اختبار حقيقي يجعلها عرضة للانكشاف، لأنها بُنيت كملاذ فقهي لا كفعل اجتماعي، وكخطاب ضبط داخلي لا مشروع تغيير خارجي.
حين تُقارب السلفية التقليدية الواقع السياسي، لا تفعل ذلك بوصفه امتدادًا لخطابها العقدي، بل باعتباره اختبارًا مربكًا. فخطابها الأصلي لم يُصَغ ليكون مشروعًا، بل ليكون منظومة ضبط، ونسق تحذير، ومنهج طاعة، وبسبب الفتنة تمحورت السلفية حوّل كتلة من «اللاءات والممنوعات: لا تفعل، لا تغير، لا تبتدع، لا تخالف السابق ـ لا تخترع … إلخ».
لذلك، فإن لحظة الدخول إلى السياسة لا تمثل تطورًا طبيعيًا بل انزياحا عن الجوهر، وتحركًا في أرض غريبة عن بنيتها التأسيسية.
ولأن الدولة الحديثة لا تخشى من لا يهدد بنيتها، فقد احتفظت بالسلفية، لا لأنها حليفة، بل لأنها غير معنية بالخصومة أصلًا. إلا مع ضدها من «الإسلاموية» ولهذا بقيت، وتمددت، وورثت المشهد الدعوي حين انهارت الحركات الإسلاموية.
من المعيب ـ كما نرى ـ أن تختزل السلفية في محاباة السلطة، أو الرضوخ لها، فهي في الأصل لا تعنيها السلطة إلا كحاجز دنيوي، يضمن الاستقرار أمام الفوضى أو «الفتنة» التي لو أردنا قيمة جوهرية هي الأكثر عمقًا في الفكر السلفي لكانت الفتنة، وليس السلطة.
وبسبب الفتنة تمحورت السلفية حول كتلة من «اللاءات» والممنوعات: لا تفعل، لا تغير، لا تبتدع، لا تخالف السابق.
تشهد التجارب السلفية في الكويت ومصر وحتى ليبيا وغيرها، أن مزاولة السياسة بقدر ما كانت اضطرارًا سلفيًا، فهو أربكها وشتتها، وفق منطق غير سياسي أصلًا.
الأطروحة هنا إذن، ليست إعلان فشل مقابل نجاح، بل قراءة في الاختلاف البنيوي الذي جعل من الإسلاموية مشروعًا يتآكل من اندفاعه، ومن السلفية خطابًا يبقى ليس لأنه منتج، بل ببساطة لأنه لا يتفاعل ولا يتجادل مع واقعه.
فالزمن لا يكافئ من يطلبه، بل من يعرف شروطه. والدين لا يختبر في النصوص، بل في الصراع مع العالم. ومن لا يدخل مواجهة التجربة، لا يُهزم. لكنه أيضًا، لا ينتصر.
وما نسميه استمرار السلفية ليس دليل بقاء مضمون، بل ربما تأجيل للتلاشي، وتحييد للزمن لا تجاوزه. فكما أن الحركة غير القادرة على التكيّف تنقرض، فإن الثبات الذي لا ينتج تحولاً قد يتحوّل هو ذاته إلى شكل من أشكال الفناء البطيء. فالصيرورة لا ترحم من لا يسير، والمستقبل لا يحتضن من لا يشارك!!