كأس الذكريات وجنة عدن

قلما تخلو سيرة كاتب، خصوصا إن كان مشهورا، من طرفة أو حكاية عجيبة، أو غريبة، غالبا ما يكون تفسيرها لدى الكاتب نفسه، ولا نستوعبها إلا بعدما يعترف بمزيتها أو أهميتها بالنسبة له. إليكما حكايتين عن كاتبين مشهورين
أولاهما عن الكاتب الإنجليزي العالمي المشهور «سومرست موم» الذي كان يحرص على حمل فنجان قديم مملوء بالشروخ معه في سفرياته البعيدة عن محل إقامته، ويضعه في غرفته بمكان بارز بأي فندق أو منزل يعتزم الإقامة فيه! وغالبا ما يكون بجانبه ثلاثة أو أربعة كتب.
ولقد انتبه خادم في فندق اعتاد «موم» أن ينزل فيه إلى أن الفنجان في غير موضعه المعتاد، فسأله عن السبب، فأجابه: «المهم أن يكون معي في رحلتي، وأن أراه طوال إقامتي، فهو منبهي المستديم بأنني مرفه ومنعم، وألاّ أثور إن قابلتني هفوة أزعجتني في محل إقامتي، فلهذا الفنجان قصة دعني أخبرك عنها، فلربما امتعضتُ من أحد ممن يعملون في الفندق، أو في أي مكان أكون فيه خلال رحلتي، فأتذكر ما مررت به العام 1940 عندما استسلمت فرنسا لجيش هتلر، وكنت بين مئات الإنجليز الذين رحلوا إلى بلادهم من جنوب فرنسا حيث كانوا مقيمين، وقد حملتهم سفينتان صغيرتان، اضطر بحارتهما إلى الإبحار عبر تعرجات طويلة تفادياً لغواصات العدو، وكانت رحلة متصلة العذاب بسبب الازدحام، وشدة الحر آنذاك، ناهيك عن الخوف والقلق وقلة الزاد، فنصيب الإنسان من الماء والطعام قليل للغاية؛ حتى إن نصيب كل راكب من الماء في اليوم لم يكن يزيد على ملء فنجان! ولقد احتفظتُ بالفنجان الذي كان يُقدَّم فيه نصيبي من الماء في تلك الرحلة الرهيبة.
وكلما أحسست في نفسي تجاهلاً أو نسياناً للنعم التي يغمرني بها الخالق الآن، أملأ هذا الفنجان بالماء، ثم أشربه جرعة بعد أخرى كما كنت أفعل في تلك الرحلة، وسرعان ما يعاودني إحساسي بعظمة النعم التي تحوطني الآن! وهكذا كما ترى أنه يذكرني، على الدوام بأن أفضل الأشياء في الحياة هي أبسطها، وأقلها قدرا، لأنها هي فقط المتاحة لنا».
والثانية عن الكاتب الأمريكي الساخر المشهور صاحب الكتابين الشهيرين «مغامرات توم سوير» (1876) و«مغامرات هكلبيري فين» (1884)، اللذين يعكسان تجاربه الشخصية، وأسلوبه الساخر والمميز في الأدب الأمريكي.
حكايته أنه أحب فتاة عليلة من صورتها، إذ انكسر عمودها الفقري، واسمها «أوليفيا لانجدون»، وصارت حبيسة جهاز يرفعها ببطء، لترتاح في جلستها، وصنع المستحيل ليتزوجها، بعدما أحبت أعماله، وتعلقت به، ورفضه والدها ثلاث مرات، وقال له: «صحيح أنك كاتب جيد، ولكنك ستكون أردأ زوج في العالم»، وبالفعل كان مارك توين «متقلب الأطوار، سريع الانفجار»، بينما كانت أوليفيا الجميلة هادئة وحكيمة، ولكن في النهاية رضخ والدها له وزوجها إياه، واستمر زواجهما 34 سنة ما بين حب وهناء، وشقاء جراء موت ابنتهما، ومرض أوليفيا، وبعدما ماتت أمر مارك توين إقامة نصب على قبرها كتب عليه: «إلى رحمة الله يا بهجتي المتألقة». ولخص في كتاباته حبه لها في عبارة بسيطة تقول: «إنها حيثما توجد يكون هناك فردوس عدن».