الحداثة في ليبيا: مفهومها وتطورها

حتى وصول يوسف باشا إلى السلطة في أواخر القرن الثامن عشر، لم يشعر الليبيون وشعوب المغرب الكبير بأن الأوروبيين تقدموا عليهم. كانت المعارك البحرية سجالا بينهم. تأتي الأساطيل الأوروبية تقصف طرابلس، وتحاصرها أياما عدة، ولكن كل شيء ينتهي على طاولة المفاوضات، فتدفع الدول الأوروبية إتاوة سنوية، للمرور الآمن بالبحر المتوسط، وهدايا وأسلحة للباشا، الذي بدوره يرسل هدايا وإتاوة سنوية للسلطان العثماني، ليعترف به حاكما على البلاد.
لكن الصدمة الحضارية الأولى حدثت عندما رأى القراصنة الطرابلسيون أول باخرة أوروبية تسير دون أشرعة عكس اتجاه الريح، ويخرج من مدخنتها دخان كثيف. لم يعرفوا ماذا حدث، ولكنهم أدركوا أن زمن القرصنة البحرية قد ولى إلى الأبد، بينما تعرض المصريون للصدمة الحضارية قبل غيرهم في حملة نابليون بونابرت، الذي لم يكتف بقواته التي تفوقت بسهولة على المماليك، وإنما اصطحب معه علماء ومستشرقين، من بينهم شامبليون الذي فك لغز الأبجدية الهيروغليفية بعد العثور على حجر رشيد. كما اصطحب معه أول مطبعة تدخل مصر، وفيما بعد سيستفيد الألباني محمد علي من هؤلاء الفرنسيين في بناء جيشه الحديث، مثل الفرنسي سليمان باشا الذي أسس الجيش، وكلوب بيك مؤسس مستشفى قصر العيني.
في الحقيقة، استسلم الليبيون والجزائريون لتراثهم في الغزو والنهب في الصحاري، ونقلوه إلى البحار، بعد أن استعانوا بخبرة العثمانيين والأوروبيين، فعادة ما يكون قائد القراصنة أوروبيا تحول إلى الإسلام، مثل الاسكتلندي الريس مراد في عهد يوسف باشا، والريس زريق الذي تمكن بزوارق صغيرة من استدراج البارجة الأمريكية «فيلادلفيا»، لتعلق في المياه الضحلة قبالة القلعة، ولا يزال صاريها معلقا حتى اليوم على قمة السرايا الحمراء، بينما تخلى التوانسة مبكرا عن القرصنة، وطوروا مع أوروبا التجارة البحرية، لذلك حافظ الاستعمار الفرنسي على البايات، بينما ارتكبوا الفظائع في الجزائر، وهو ما فعله الطليان في ليبيا.
وبعد اتفاقية باردو في تونس، أُطلق على هذه المرحلة اسم «مرحلة الحماية»، التي تحولت إلى استعمار مباشر بعد اتفاقية المرسى، بينما كان الإيطاليون عينهم على تونس قبل ليبيا، وهو ما جعل موسيليني لاحقا يتحالف مع ألمانيا النازية مقابل أن تكون تونس وجزيرة كورسيكا من حصة إيطاليا.
شخصيات ليبية قليلة سافرت إلى أوروبا، على رأسهم السفير عبد الرحمن أغا البديري، سفير يوسف باشا إلى أوروبا، وحسونة الدغيس وزير الخارجية، ومن سوء حظ الليبيين أن هذين لم يكونا من المثقفين والكتاب، مثل خير الدين التونسي الذي أوفده الصادق باي لاسترداد ما سرقه الوزير محمود بن عياد، فأمضى ثلاث سنوات في فرنسا، ونجح في استعادة جزء من المسروقات، التي قدرت بموازنة تونس لثلاث سنوات، ولكنه عاد ليكتب كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، ويتولى فيما بعد رئاسة الحكومة في تونس، ويصدر أول دستور في العالم العربي والإسلامي عام 1861، ويؤسس مدرسة الصادقية التي خرجت النخبة التونسية، بينما وصل إلى فرنسا مبكرا الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي، ليكتب كتابه «تلخيص الإبريز في تلخيص باريس»، بينما لم يكتب أبناء القراصنة في ليبيا والجزائر شيئا عن تلك الصدمة الحضارية، ولذلك حضر البدوي بقوة في تاريخ البلدين، وتراجع في مصر وتونس حتى بداية الانقلابات العسكرية، ليعود مرتديا بدلة عسكرية.
ولم يترك الأتراك في العهد العثماني الثاني أي شيء له علاقة بالحداثة سوى إصلاحات خجولة في الضرائب، تسببت في ثورة غومة المحمودي وعبد الجليل سيف النصر، وهما زعيمان بدويان كان معفيين من دفع الضرائب، ولكن في المحصلة النهائية كان نمط الإنتاج البدوي الأكثر مقاومة للتحديث من غيره، ومع الطليان تدفقت منتجات الحداثة بوفرة. ففي الثلاثينيات، شق بالبو أول طريق معبد من طبرق إلى رأس اجدير، وطريقا يشق الجبل الغربي، وطريقا يشق فزان.
وخلال عشر سنوات، بنى طرابلس وبنغازي الحديثتين، ووصلت السيارات والسكك الحديدية، ووصل المذياع الذي حرمه الفقهاء قبل أن يسمعوا من خلاله الآذان، ووصلت السينما والمسرح والحانات والبيتزا والآيس كريم والسندويتشات، وإن ظل ساندويتش الفاصوليا بالكرشة الأكثر مبيعا في بنغازي.
انهارت الليبرالية في مصر وتونس، ثم جرفت الطبقة الوسطى، لأن الحداثة كانت مستوردة، ولم تخرج من تراث المنطقة. وفي كل الأزمات، ظل شعار «الإسلام هو الحل» شعارا جذابا للسواد الأعظم من الجماهير الذين جربوا كل الأيديولوجيات دون جدوى، وها هم اليوم لا يستطيعون الاستغناء عن منتجات الحداثة وما بعد الحداثة دون أي تغيير جوهري في طريقة التفكير واستيعاب التكنولوجيا، فالبدوي تحول إلى مهرب للبشر بدلا من تجارة العبيد، والقرصان البحري تسلم البشر، وهربهم على قواربه نحو أوروبا، وبقية أنماط الإنتاج السابقة تتسابق على تهريب الوقود والسلع المدعومة ونهب عوائد النفط. أما التوافق فهو مصطلح غير موجود في تراثنا حتى عندما تأسست الجمهورية الطرابلسية في جامع المجابرة بمسلاتة عام 1918.
الحداثة الحقيقية بدأت في الأدب عندما نشر الشاعر مصطفى بن زكري ديوانه الأول عام 1892، ثم نشر وهبي البوري قصة «ليلة زفاف» عام 1935، وللمرة الأولى ينتقل المجتمع الليبي من الرواية الشفوية إلى الرواية المكتوبة. وعلى الرغم من أن هناك من سبق البوري في كتابة القصة القصيرة، فإنه أول من حقق الشروط الفنية للقصة القصيرة، ثم توالت حبات المسبحة.
ففي عام 1937، صدرت رواية «مبروكة» لخليفة عبد المجيد المنتصر عن الحرب الإيطالية، ثم أصدر محمد فريد سيالة روايته «وتغيرت الحياة» عام 1957، ثم رواية «الحياة صراع» عام 1957، و«اعترافات إنسان» عام 1962.
يذكر أن البوري وسيالة درسا في المدارس الإيطالية ببنغازي وطرابلس، وبالتالي فإن لوثة الحداثة جاءت من هناك، وإن تأثرا الاثنان بكتّاب القصة والرواية في مصر والشام. وفي عام 1957، نشر الشاعر علي الرقيعي مجموعته الشعرية «الحنين الظامئ»، فاتحا الطريق لطريقة جديدة في كتابة الشعر بعيدا عن بحور الخليل، لتظهر فيما بعد قافلة من شعراء قصيدة التفعيلة، ثم قصيدة النثر. كما تطورت المقالة في ليبيا على يد الصادق النيهوم ويوسف القويري، لتصل إلى أرقى حالات النضج.
ولم تتأخر المرأة في كتابة تجربتها من خلال خديجة عبد القادر في كتابها «ليبية في بلاد الضباب» عام 1955، وشق المسرح الليبي طريقه بصعوبة منذ أن قدمت فرقة التمثيل العربي مسرحية «شهداء الحرية» لمحمد قدري عام 1908.
وكل هذه الإنجازات تحققت في المدينة، وليس في الريف أو في البادية، على الرغم من أن كتّابها جاءوا من المدينة ومن خارجها، لتصبح المدينة بوتقة المجتمع الجديد، الذي لا تزال البادية والريف تشده إلى الوراء.
وإذا قارنا بين قصيدة عبد المطلب الجماعي، الذي عاش في القرن التاسع عشر، التي يقول فيها: «أرحم بوي خلاني هواوي كيف النجم في قلب السماء.. وحتى الصقر ركاز العلاوي، إن جاه الضيم عن وكره جلا .. ونا هو الطير الأربد بوجلاوي، عندي البعد والداني سوا»، مع قصيدة الشاعر أحمد الحريري، الذي عاش في القرن العشرين، التي يقول فيها: «في حوش الغوالي كليته كوالي مقلي مقطر زيته .. على كسكسي مبروم بيد الزولة، على حرايمي عاقد غدي على وصوله.. من قبل نوصل حوشهم شميته، وكفتة السردينة حدا الشرمولة.. والغمبري مشرتع على صونيته»، ندرك أننا مجموعة من الشعوب تعيش في شبه القارة الليبية، وأن قيم الجماعي انتصرت على قيم أحمد الحريري، وأننا لا نزال نقاوم الحداثة ونتصارع على منتجاتها.