الديمقراطية: بين الخيال والواقع

في عالمنا العربي، صرنا نُطارد صورًا أكثر مما نبني واقعًا.
وعدتنا الديمقراطية بالحرية، بالمشاركة، بالعدالة، لكن ما الذي وصلنا إليه فعلًا؟
أصبحنا أسرى صورة الديمقراطية، لا روحها.
عالم الاجتماع والفيلسوف جان بودريار، فضح هيمنة الصورة، حيث قال إننا نعيش في «واقع فائض»، حيث تستبدل الرموز بالحقائق، وتصبح الصورة أهم من الأصل.
هكذا صرنا نستهلك ديمقراطيات مصنوعة بعناية: انتخابات تُعرض كاحتفال، شعارات تُسوّق كمنتج، وقادة يُقدَّمون كمنقذين، لكن خلف هذه الصور، تظل الحقيقة غائبة: لا مؤسسات، لا عدالة، ولا كرامة إنسانية.
ثورات الربيع العربي كانت محاولة صادقة للانفكاك من هذه الحلقات، لكنها ما لبثت أن عادت تُبتلع داخل ماكينة صناعة الصور.
في ليبيا، عشنا لحظة حرية حقيقية، لكننا انشغلنا بصناعة المشهد:
مجلس انتقالي يُبث عبر الشاشات لكنه بلا سلطة فعلية.
مؤتمرات تُنقل مباشرة لكنها لا تبني دولة.
شخصيات سياسية تتصدر العناوين لكنها لا تحكم.
في ظل هذا الفراغ، لم يكن غريبًا أن يخرج علينا «أفاتارات» جديدة تستنسخ رموز الماضي.
خليفة حفتر في ليبيا كان نموذجًا صارخًا لهذا الاستنساخ.
وفي دول مجاورة، برزت شخصيات أخرى تتوسل «الحنين الأبوي» وتُعيد تشكيل السلطة الفردية تحت غطاء دستوري أو وعود بإنقاذ الدولة، لكنها في الحقيقة تعيد إنتاج نفس المنظومة التي أسقطتها الشعوب في لحظة وعي نادرة.
لكن الخطر الأكبر ليس في هؤلاء «الأفاتارات»، بل فينا نحن.
في الجماهير التي صارت تتغذى على الصور وتبحث عن شعارات مريحة، لا عن تعقيدات بناء الدولة.
في النخب التي تزدري «العوام» وتحمّلهم المسؤولية الكاملة، بينما هي من فشلت في تقديم مشروع حقيقي يُفهِّم الناس ويصغي إليهم.
المعركة ليست مع الناس.
المعركة مع من يحتكر أدوات تشكيل وعيهم:
الإعلام الذي يبيع الوهم، والتعليم الذي يُهمّش التفكير النقدي، والسياسة حين تتاجر بالشعارات، وتتواطأ لتصنع واقعًا زائفًا يُباع للناس كحقيقة نهائية.
هنا، لا يجوز لوم «الجماهير» وحدها ـ كما تفعل بعض النخب ـ بل يجب كسر هذه الآلة.
واجبنا أن نحترم الناس بما يكفي لقول الحقيقة: «الدولة لا تُبنى بالصورة، بل بالإرادة الواعية والجهد اليومي».
هناك من يظن أن العقل وحده يبني الدولة، وآخرون يراهنون على الإيمان.
لكن التجربة تُعلّمنا أن إقصاء الإيمان يُحوِّل السياسة إلى آلة جافة تُجمّد الابتكار، وإقصاء العقل يُحرّر مشاعرَ جامحةً يسهل توظيفها ديماغوجيًّا.
المخرج؟ عقلٌ يُنظّم الطريق، وإيمانٌ يغذّي الاستمرار، كتزامن الساعة مع نبض القلب.
إن أكبر مأزق نعيشه اليوم هو هذا: نصدق الصورة، ونُكذّب الواقع.
نُصفّق للشاشات، ونُهمل بناء المؤسسات.
نُصوّت لأوهام، ونُدير ظهورنا لحقيقة الدولة.
إذا أردنا كسر هذه الحلقة، يجب أن نخرج من فكرة «المنتظر السياسي»، القائد الذي يُفترض أن ينقذ الجميع.
يجب أن نؤمن أن الدولة مشروع يتشكل يوميًا في التفاصيل الصغيرة: في بلدية تُحسّن خدماتها، في مدرسة تُفتح في قرية نائية، في قاضٍ يُنصف مظلومًا رغم الضغوط.
الحل لا يبدأ بخارطة طريق تقنية، بل بنظرة جديدة إلى أنفسنا:
أن نتوقف عن البحث عن الصورة المخلّصة.
أن نقبل بأن الديمقراطية لا تهبط جاهزة، بل تُبنى، وتُصحّح، وتُختبر.
أن نفهم أن السياسة ليست معركة شعارات، بل معركة وعي طويل النفس.
ربما لهذا السبب، لا يمكننا بعد اليوم أن نقبل ديمقراطية «المهرجانات»، ولا ديمقراطية «الصور الفائضة».
نحتاج إلى ديمقراطية واقعية، نعرف حدودها، ونعرف إمكاناتنا، ونعيشها كجهد يومي، لا كاحتفال عابر.
إنها ليست معركة تقنية.
إنها معركة وعي، معركة معنى، معركة استعادة الواقع من بين أنياب الصورة.