حياة جديدة

العنوان أعلاه اسم رواية صدرت مؤخراً للشاعر عمر عبد الدائم، عن داري نشر بوابة الوسط، ومكتبة الكون. وهي، بالنسبة لي، الرواية الثالثة التي يكتبها روائي من الجنوب، وأتيحت لي فرصة قراءتها. الرواية الأولى التي قرأتها كانت للروائي د.محمد عبدالمطلب الهوني بعنوان: «مقبرة المياه». والثانية للروائي إبراهيم عثمان عثمونه بعنوان: «نساءٌ في الشمس».
رواية عثمونه، في رأيي، الوحيدة من الثلاث روايات، التي تستحق أن يطلق عليها اسم رواية جنوبية. لأن الجنوب مسرحها، وأبطالها جنوبيون، ومؤلفها ولد ونشأ وكبر وعاش حياته في الجنوب، وما يزال.
قبل وصول الرواية الجنوبية إلى مدن الساحل الليبي، عرفنا شعراء وقصاصين جاءوا من مختلف مدن ومناطق الجنوب. وها نحن الآن، في مدن الساحل، نستقبل ببهجة روائيين جنوبيين مرموقين. قد يقول قائل إن رواية الجنوب وصلت قبلهم بسنوات، ممثلة في روايات الروائي الفذ إبراهيم الكوني. وهو قول لا يخلو من صحة. لكن يظل مهما التذكير بأن إبراهيم الكوني روائي تارقي الأصل، كرّس جلّ أدبه الروائي لأهله من الطوارق. ولم يتطرق إلى ما عداهم إلا نادراً. ومن غدامس قرأنا روايات الكاتب إبراهيم عبدالجليل الإمام. لكن غدامس ليست سبها وبراك والشاطئ، ولا الجفرة.
في: «عُمرٌ آخر» يختار الشاعر الروائي عمر عبدالدائم العودة إلى مدينة سراييفو في يوغسلافيا سابقاً؛ حيث قضى سنوات دراسته العسكرية، وتخرج ضابطاً في الجيش الليبي، لتكون مسرحاً لأحداث وشخصيات أولى رواياته.
ينتقل المؤلف ببطله الضابط العسكري بعد تخرّجه من الأكاديمية العسكرية، وهجره حبيبته، إلى صحراء تشاد، كي يخوض غمار حرب، ويتذوق مرارة الأسر. ولا تبدو مدينته سبها، مدينة المولد والنشأة إلا قليلاً، في «فلاش باك» يعيد بطل الرواية إلى طفولته، وهو يلعب مع خلاّنه، متسلقاً درجات قلعتها القديمة: «القاهرة».
الرواية سيروية. ترصد وتسجل وتوثق من خلال ذكريات رجل ليبي عجوز، يعود إلى سراييفو، بعد سنوات طويلة، بغرض العلاج، فتهيّج الزيارة خلايا الذاكرة، وتنهال كثبان ذكريات سنوات الشباب والحبّ والدراسة والمتعة التي عاشها هناك، ثم ما تلاها من مرارات الحرب والأسر في تشاد.
عنوان الرواية: «عمرٌ آخر» يحيل إلى معنيين. الأول يعني المؤلف نفسه عمر عبد الدائم، حيث يقدم لنا بورتريه سيروياً متخيّلاً في شبابه وشيخوخته. والثاني يعني أن بطل الرواية، وهو المؤلف، حظي بعمر آخر، بعد عودته حيّاً من الحرب والأسر إلى أهله وذويه، فكأنما كتب له عمر آخر. وقد يكون هناك معنى ثالث، ويقصد به التغيّر الذي لحق ببطل الرواية – المؤلف – في تجربة الأسر، وتأثيره على حياته لاحقًا. وقد يشمل العنوان المعاني الثلاثة كلها معاً.
النقلة الجغرافية من سبها الصحراوية إلى سراييفو الأوروبية الخضراء ليست سهلة على فتى صحراوي صغير السن وقليل التجربة الحياتية. وتمثل قفزة حياتية تغيّر حياته. وتجربة الحب مع فتاة أوروبية ومعاناة فقدها أمر مثير للحزن بلا شك وقد لا يشفى منه. كما أن النقلة الثالثة من تلك الجنّة الأرضية إلى جحيم الحرب في تشاد، ومعاناة ذل الأسر، يعيدنا إلى سنوات الجمر في ليبيا، والكوارث التي عاشها ستة ملايين مواطن ليبي.
قلة خبرة المؤلف بفن كتابة الرواية – هذه تجربته الأولى – وحرصه على الخوض في طرح قضايا عديدة مختلفة، أثقل السرد بحمولة زائدة، في رأيي، وأدخل الرواية مُدخلا آخر، حاد بها عن الطريق. وكان أولى بالمؤلف تفاديه، كونه أخل بالإيقاع السردي الروائي، في تنقلاته الحياتية، كما تتجلى في حياة ونفوس شخصيات الرواية، خارجا وداخلاً. ولو كنت محرراً لما ترددت في إلغائه.
في كتابه المعنّون: «في مديح الرواية» يرى الروائي المصري الراحل بهاء طاهر أن الرواية «ليست منشوراً سياسياً، ولا دعوة إلى الإصلاح الاجتماعي. ولا وصفة لعلاج الأخلاق والنفس. ولا تقدم إجابات على الأسئلة التي يُضني الفلاسفة أنفسهم في حلها، ولكنها تشمل شيئاً من ذلك كله وتتجاوزه».
يلاحظ القارئ أن جذور المؤلف الجنوبية وتربيته المحافظة كانت بمثابة أصفاد حالت بينه وبين التحليق في السماوات المفتوحة أمامه. وكان أجدر به المجازفة بالطيران في أجوائها الساحرة الفاتنة. زد على ذلك، أن المؤلف بدا لي وكأنه وضع لنفسه خطوطاً حُمرا منذ البداية لا يتجاوزها، وخاصة ذات الصلة منها بعلاقة الحب، وهو الشاعر! فبدت العلاقة العشقية رزينة باهتة، وكأنها ليست أول قصة حب وعشق بين شمال وجنوب، لأن الراوي وضع نفسه عمداً تحت رقابة ذاتية صارمة تدفعه إلى تفادى كل ما من شأنه أن يتيح له التحليق عالياً خشية خدش الحياء العام. وليت عمر الآخر تجاهل الرقيب، وفتح نوافذ قلبه أمام طيوره الحبيسة، كي تطير في أجواء السرد حرّة طليقة، إلى أبعد سماء متاحة، وممكنة الوصول.