صمت الأغنام!

صمت الأغنام!

ثلاث ظواهر لاحظتها في أعياد الأضحى منذ سنوات، وهي صمت الخرفان عن الثغاء في الحظائر وسوق الأضاحي والبيوت، واختفاء القطط والذباب الأزرق عند النحر. وتساءلتُ كما تساءل غيري عن السبب وراء هذه الظواهر الغريبة، فكان لا جواب مقنعا بالمرة!
لقد اعتدنا مذ كُنّا صغارا سماع ثغاء الخرفان ونشاطها في الحظائر والساحات، وفي البيوت وفوق الشاحنات، وحتى وهي مقيّدة على الكراريس والبراويط، وكان الثغاء مستمراً في تناغم، ولا يتوقف حتى ينتهي بالنحر. كما كان الذباب الأزرق كبيراً، ويهجم من كل مكان على لحم الذبيحة وبقع الدم، فكُنّا نتساءل في أنفسنا: من أين يأتي هذا الفصيل من الذباب؟ وكيف يتكاثر في طنين ثم يختفي هكذا فجأة؟!
وتلك القطط المتربّصة والمتحفّزة للانقضاض على قطع اللحم، والفرار بها فوق الأسوار، كيف تختفي هي الأخرى عن ولائمها الباذخة؟! ليس فقط قطط الشوارع، وإنما قطط البيوت أيضا كانت تختفي عن أصحابها، ولا يعرف أحد إلى أين تذهب وتختبئ، وقد كانت بحاجة دائمة للطعام، وتسعد كثيراً بعظام وشلافيط الدجاج، فما بالك بلحم ضأن طازج بعضه مطروح على الأرض وبعضه يتدلّى من معلاق! ويبقى السؤال الأهم: ما السّر وراء هذه الظواهر الغريبة التي أصبحت تتكرّر في عيد الأضحى، ولا تفسير منطقيا لحدوثها؟!
أحد الأصدقاء أعجبته الملاحظة، فعلّق بقوله: لم أنتبه لذلك، لكن بالنسبة للقطط والذباب الأزرق ربما يكون عدم انتباهنا كان بسبب انشغالنا بالتحضير للشواء، وعن صمت الخرفان وغياب ثغائها في الحظائر، و«سوق السعي» فربما يكون بسبب انشغالنا بغلاء الأسعار، والتركيز على شروط قبول الأضحية من الناحية الشرعية، فلم ننتبه لصمتها، ولا حتى مدى قبولنا الشرعي لهذا الصمت، وكأنه الخرس.. فقاطعته بالقول: «لكنه صمت جماعي يا صديقي. كل القطيع صامت وهو في طريقه إلى المسلخ». هنا أوقفني عن الكلام ضاحكاً: أبعد السياسة عن خروف العيد يا أستاذ، يكفي صمتنا نحن الليبيين، وقبولنا بمن باعنا في سوق الديمقراطية، وقبض الثمن ونحن صامتون كهذه الخِراف!
أيام البركة في الستينيات، أيام بهجة الكِبار والصغار والثغاء الحُر والذباب الأزرق الذي كان يشاركنا أضحية العيد، جنباً إلى جنب مع قطط لا نعرفها، تتربّص على السياج ثم تسطو وتهرب، كان في منطقتنا راعي أغنام اسمه «سعيد»، يعرفه معظم سكان «سيدي اخريبيش»، يرعى الأغنام بلا كلب حين كانت بنغازي لا تشكو من ذئاب. كان يمرُّ بشوارعنا في الصباح، فتخرج له الخرفان من البيوت طائعة في ثغاء بهيج، فيقودها قطيعاً من الجلبة، يعبر بها الشوارع حتى منطقة «الثامة والزريريعية»، حيث تنال بعضاً من الحشائش وثمار النخيل هناك، وتعود في المساء بأصواتها من بعيد، فنرى الغبار يتصّاعد مع الجلبة، ويملأ فضاء الشارع وهي تصيح وتركض إلى بيوتها تباعاً. وكنتُ أمام البيت أنتظر خروفنا الصغير الجميل وهو يقفز من بين الخرفان، ويركض نحوي، يرتمي إلى حضني، ويدخل البيت مسروراً بنزهته الممتعة، وعودته السعيدة إلى أهله.
الغريب في الأمر ليس في أصوات الخرفان وهي تدخل البيوت، وإنما في صمت الراعي «سعيد» الذي تعرفه كُل خرفان «سيدي اخريبيش»، وتذكّرتُ مدى أمانته وإخلاصه لعهدة الناس وهو يقود أرزاقهم بعيداً عنهم بلا كلب، ويعود بها في المساء مقابل دراهم قليلة، وبعض الفتات يلقي به في خرجه القديم الذي يتدلّى على كتفه النحيف.. كان الراعي «سعيد» طويلاً ونحيلاً وذا سمرة من أثر الشمس، فلا ظِل له في الطريق الطويلة سوى من ظُليلات أشجار «الثامة» وأعشاب أرض «الزريريعية» الندية، وكرعة من ماء الماجن في جامع الجهاني وهو ينهي طريق العودة بآخر خروف يدخل بيته المعلوم في شارع عمّوش، قبل أن يتوجّه لطريق البحر، ويسلك رمال الشاطئ وحيداً نحو الصابري!