تاريخ الدستور الليبي من منظور سالم الكبتي

تشهد العاصمة طرابلس منذ أسابيع حراكاً شعبياً يطالب بإزاحة جميع الأجسام الحاكمة، رافعاً لافتات تدعو إلى انتخابات وسلطة تنفيذية وتشريعية جديدة للخروج من حالة الجمود، كما شاهدنا ضمن عناوين الحراك المناداة بدستور دائم ينظم عمل السلطات ويؤسس لنظام مجتمعي واقتصادي وسياسي ثابت يكفل الحقوق والحريات، ولأن بنود الدستور تمثل جوهر هذه الكفالة يجري النقاش بين النخب والساسة وخبراء القانون على تفاصيل التفاصيل من حيث معيار الأفضلية ومناسبة هذا البند أو ذاك لتقاليد وديانة وثقافة البلد ومدى ملاءمته لسياقاتها الانسانية العامة، وهنا يأخذ التناول سياقه المرحلي بالنظر إلى تاريخ وتطور الدستور ببنوده والمنعطفات التي مر بها وبذلك يصبح ما هو قانوني أو سياسي ذو دلالة ثقافية تاريخية يستنطق ظرفية المراحل ويشخص واقعها.
لذا ارتأينا أن نضع بين يدي القارئ في هذا العرض المبسط بعضاً من جهود المؤرخ والباحث سالم الكبتي الذي واصل ولا زال تدوين التاريخ الثقافي والسياسي لليبيا عبر أرشفة سير الأعلام من الأدباء والسياسيين وجمع نتاجهم المنشور في الجرائد والمجلات، ويأتي كتاب (الدستور في ليبيا .. تاريخه وتطوره) الصادر عن دار الساقية للنشر ضمن هذه النفائس؛ حيث يستعرض المؤلف في ستة عشر فصلاً أهم المحطات المفصلية في نشأة وتطور الدستور الليبي منذ ما قبل الاستقلال حتى الوقت الحالي.
مجتمع بين العائلة والقبيلة
يستدعي الكبتي المثل الشعبي (اللي ما عنده قديم .. ما عنده جديد) مدللاً على أهمية البناء على المعارف السابقة والاستفادة منها والبناء عليها، حتى لا تحدث خلخلة أو قطيعة تنتج في النهاية وضعاً مربكاً كما رأينا في الفراغ الدستوري خلال مدة تجاوزت الأربعة عقود والنتائج التي خلفها على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي.
تحت عنوان (كيف وصل الدستور إلى ليبيا) يشير الباحث سالم الكبتي إلى أن الليبيين على اختلاف مناطقهم وثقافاتهم لمدة طويلة لم يعرفوا شيئاً اسمه (الدستور) أو النظرية الدستورية وما يترتب عليها من مجالس نيابية وتنظيمات حزبية؛ حيث كان النظام الاجتماعي وأعرافه سائداً من خلال (العائلة) في المدينة أو القبيلة (في الدواخل) وكانت هناك خلال الحكم العثماني للبلاد خاصة الثاني (1911-1835) مجموعة بارزة ووجوه تكاد تكون مألوفة توارثت هذا الوجود الاجتماعي باستمرار، من نخب وشخصيات العائلات والأسر المعروفة في كل مدينة.
يضيف الكبتي: كانت البلاد تخضع سياسياً للباب العالي في الأستانة وتارة من الولاة والمتصرفين، وحاولت السلطات ولو على استحياء كسب ود العائلات والقبائل بتعليمهم في المدارس الرشدية التي أقامتها في الداخل (طرابلس وبنغازي) أو إيفادهم للدراسة في اسطنبول، وبذا فإن جزءاً من مظاهر تكون الوعي السياسي والفكري في ليبيا أخذ يلوح بواسطة التعليم في هذه المدارس والمعاهد وبصدور جريدة طرابلس الغرب العام 1866 أيضاً وتعيين أفراد تلك النخب في وظائف إدارية ومالية.
وواصل الكبتي: إلى العام 1908 ظل الليبيون يعتمدون هذا النظام الاجتماعي حتى الإعلان في الأستانة عن العمل بالدستور الذي كان صدر العام 1876 في مطلع عهد السلطان عبدالحميد الثاني ثم عطل العمل به واتهم من معارضيه بالاستبداد وصار إعلان الحرية أو ما عرِف بالحرية والمشروطية وكانت تلك خطوة لإزاحة السلطان نفسه مع بداية السنة الموالية 1909 وفرصة مواتية لبعض أبناء ورعايا الدولة في الداخل والخارج للمشاركة والتعبير وتكون هذا الدستور من 119 مادة.
وكان لصدور هذا الدستور انعكاساته على ولاية طرابلس الغرب؛ حيث صدرت جرائد (العصر الجديد والكشاف وتعميم حريت وأبوقشة والأسد الإسلامي)، كما شهد ذلك العام صدور ثاني ديوان شعر لشاعر ليبي هو عبدالله يحيى الباروني بعد الشاعر مصطفى بن زكري العام 1898 وكذا مولد الأسطى عمر الذي سيصبح فيما بعد شاعراً ينادي مع آخرين لوحدة ليبيا.
– للاطلاع على العدد «498» من جريدة «الوسط».. اضغط هنا
الجمهورية ودساتير برقة وطرابلس
يمضي الكبتي في تتبع تحولات الدستور الليبي بالإشارة إلى الحرب العالمية الأولى وتداعيات معركة القرضابية التي وحدت ليبيا في مواجهة الغزو الإيطالي حيث عقد مؤتمر في مسلاتة سنة 1915 وولدت منه الجمهورية الطرابلسية بزعمائها الأربعة (سليمان الباروني ورمضان السويحلي وعبدالنبي بالخير وأحمد المريض) وبجريدتها (اللواء الطرابلسي) ثم عقد صلح سواني بنيادم في أبريل العام 1919 وفي يونيو من العام نفسه أصدرت إيطاليا القانون الأساسي أو الدستور (للقطر الطرابلسي) تكون من أربعين فصلا، وفي برقة كانت سلسلة من المفاوضات قد بدأت منذ العام 1916 في الزويتينة بين الأمير إدريس السنوسي والجانبين الإنجليزي والإيطالي وتشكلت حكومة أجدابيا العام 1917 عقب اتفاقية عكرمة ثم أعلنت الحكومة الإيطالية دستوراً لبرقة في 13-10-1919 بعد إعلان دستور طرابلس بأربعة أشهر.
ويوثق الكبتي في كتابه أنه تزامناً مع التجارب الدستورية في الداخل قام المهاجرون الليبيون فترة الاحتلال الإيطالي بحراك سياسي في مصر وتونس وبلاد الشام وكونوا الجمعيات والنوادي السياسية والاجتماعية وأسهمت نخبهم الواعية بتفعيل ما يتصل بالقضية الوطنية عن طريق الكتابة في الجرائد والمشاركة في العديد من اللقاءات والمؤتمرات للتعريف بالقضية، ومع قيام الحرب العالمية الثانية في أواخر 1939 وتحالفهم صيف العام 1940 مع بريطانيا وتأسيس جيش وطني ونتج عن ذلك تولي الإدارتين البريطانية والفرنسية الأمور في برقة وطرابلس وفزان اعتباراً من العام 1943، ليبدأ مخاض حراك سياسي آخر أو ما عرف بمخاض الأربعينيات وما صاحبه من تكون الأحزاب وصدور الجرائد في برقة وطرابلس وعاد الأمير إدريس إلى بلاده في أول زيارة 1944 ثم استقر بها العام 1947.
ومن جانب آخر كما يشير الكبتي كانت قد أخذت القضية الليبية بعداً دولياً عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بين الدول الكبرى 1945.اتجهت الأنظار إلى ليبيا ببعث لجنة تحقيق رباعية في أواخر العام 1947، ولمعرفة الليبيين بفحوى زيارة اللجنة التي ترمى إلى وضع الوصاية الإيطالية والبريطانية والفرنسية على ليبيا كان الرفض الكامل لتلك التوصيات كذلك لم يحظ بالموافقة عليه في جمعية الأمم المتحدة، ومع تزايد الاهتمام الدولي بالقضية الليبية أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم (289) في 21 نوفمبر 1949 بالاعتراف باستقلال ليبيا ورأت أن ليبيا بحاجة إلى سنتين من الاستعداد والتهيؤ نهايتها أول يناير 1952.
بعد شد وجدب مع إرسال المبعوث الأممي ادريان بلت وطرحه فكرة اللجنة التحضيرية التي تمهد لانتخابات الجمعية الوطنية لتضم هذه الجمعية لاحقاً 60 عضواً بنسبة 20 عضواً من كل إقليم يكون تمثيلهم بطريق الاختيار وليس الانتخاب، وضمت اللجنة في عضويتها مجموعة من رجالات ليبيا الذين أخلصوا النية للوطن وهدفهم مستقبلها، وفي 25 نوفمبر 1950 افتتحت أولى جلساتها في مدينة طرابلس، تقدم السيد عمر شنيب للجمعية بتصميم نفذه لشكل علم البلاد بألوانه الثلاثة وقد أقرته الجمعية ووافقت عليه في جلستها بتاريخ 4-12-1950، وأنشأت الجمعية الوطنية لجنة في اليوم ذاته الذي اعتمدت فيه شكل العلم وكلفت عمر شنيب برئاستها ومن 17 عضواً وأوكلت إليها أمر إعداد دستور للبلاد، وانتهت الجمعية من وضع الدستور وإقراره في اجتماعها ببنغازي يوم 7 أكتوبر 1951.
لا يمكننا تناول كامل تفاصيل الكتاب، فقط أردنا وضع القارئ وبشكل مختصر في صورة المراحل التي أنتجت دستور 1951 ونستشف منها روح الجيل الذي قدم مصلحة ليبيا على مصلحته. وظل من نماذج الدساتير الراقية في العالم.