يمكن أن تنطلق الطرق من هذه النقطة.

يمكن أن تنطلق الطرق من هذه النقطة.

في زمنٍ تتصارع فيه القوى على النفوذ والممرات، وتضيع فيه الدول التي لم تحسم أمرها بين أن تكون جسرًا أو ساحة، تقف ليبيا عند مفترقٍ تاريخيٍ حادّ.

وطرابلس، العاصمة التي اختُزلت طويلاً في كونها «نقطة توازن هش»، باتت اليوم مدعوة لتُعيد تعريف ذاتها كمركزٍ للمبادرة، لا كمحطةِ عبور للغير.

إن سؤال السيادة في ليبيا لم يكن يومًا مرتبطًا بغياب الاعتراف الدولي، بل بانكفاء المشروع الوطني عن الإمساك بمفاصل الربط الحقيقي مع العالم.

لقد تحولت طرابلس إلى نقطة انتظار، تمر عبرها الرسائل، والضغوط، والمصالح، دون أن تُمسك هي بزمام الرسالة، أو تبادر بتعريف مصلحتها.

وها نحن اليوم، نرى كيف أُفرغت المؤسسات من مضمونها، لا بفعل الانقسام فقط، بل لأن طرقنا إلى العالم باتت تمر عبر غيرنا.

فمن أراد التواصل مع واشنطن، مر عبر الرياض.

ومن أراد التفاهم مع باريس، مر عبر الدوحة.

وهكذا تُرك القرار الوطني رهينةً لمتاهة «الوسيط الوسيط»، في منطقة لا ترحم من لا يُحسن التموضع.

نخب في الظل.. ومصلحة لا تجد من يحملها

ليبيا لم تكن يومًا عاجزة عن إنتاج نخب وطنية قادرة على التواصل مع مراكز الثقل الدولية بلغة المصالح، لا بلغة التبعية.

لكن ما حدث ـ ويحدث ـ هو أن قوى النفوذ المحلية، وقد اعتادت التعايش مع «توازن الضعف»، وجدت مصلحتها في إقصاء هذه النخب، لأن حضورها يُهدد امتيازات قائمة على الغموض والتبعية، لا على الشفافية والبناء.

هذا ما تفسّره بعمق نظريات «رأس المال الرمزي» و«توازنات الهشاشة»، والتي تؤكد أن المجتمعات التي تُقصي الفاعلين القادرين على بناء الثقة الدولية، تنكفئ نحو نخب استهلاكية، لا تملك أدوات التأثير ولا حقله.

لقد أصبحنا نستورد التحالفات كما نستورد السلع، ونقبل بأن تُدار ملفاتنا عبر منصات إقليمية لا ترى في ليبيا سوى أداة ضغط، أو مساحة تصفية حسابات.
حين همّشنا الإقليم.. غرقنا في التبعية

في خضم هذا التوهان، فُقد البعد الطبيعي للمجال الجيوسياسي الليبي.

وتم استبدال العمق التاريخي ـ من مصر وتونس إلى الجزائر ـ بمحاور بديلة استثمرت في هشاشتنا بدل أن تستثمر في نهضتنا.

إن تهميش مصر، وهي دولة جوار بمكانة استراتيجية وثقافية متجذرة، لم يكن فقط قرارًا سياسيًا خاطئًا، بل كان خطأً جيوسياسيًا فادحًا، سلخ ليبيا عن عمقها الحيوي، ودفع بها إلى أن تصبح طرفًا تابعًا في صراعات إقليمية ليست لها.

فحين خرجت القاهرة من معادلة التأثير، تمددت عواصم أخرى، لا ترى في ليبيا شريكًا، بل مساحة تعبئة واستنزاف.

وهكذا أُسقطنا من معادلات التنمية والاستقرار، وأُدخلنا قسرًا في دوائر الأمن والترويض.
الفرصة القادمة

لكن كل هذا لا يعني أن الباب قد أُغلق.
على العكس، فإنّ ملامح تحول هادئ بدأت تتشكل في الأفق.

ثمة وعي جديد، بدأ يتجاوز صخب الخنادق وصمت القنوات، ليصوغ مشروعًا ليبيًا خالصًا، يقوده وطنيون حقيقيون، يمتلكون القدرة على بناء جسور مباشرة مع العالم من طرابلس، لا عبر أحد.

هذا المشروع لا ينتظر إذنًا من أحد، لأنه يستند إلى منطق المصالح المشتركة، لا الهبات، ويرتكز على قناعة بسيطة لكنها حاسمة:

إن الطريق إلى واشنطن أو بكين أو بروكسل، يجب أن يبدأ من طرابلس وينتهي فيها، وأن ليبيا، بثقلها الجغرافي والتاريخي، لا يُمكن أن تكون طرفًا هامشيًا في معادلة المتوسط والساحل وأوروبا.

المصالح الكبرى لا تتعامل مع الدول لأنها قوية عسكريًا فحسب، بل لأنها تقدم نموذجًا يمكن الوثوق به، والاستثمار فيه.
وهذا بالضبط ما بدأ يتشكل الآن: نموذج ليبي قيد التشكل، عقلاني، مبادر، ويعرف موقعه تمامًا.

لا أحد سيصنع الطريق لنا
لقد آن الأوان أن نتوقف عن الاستعارة في تحالفاتنا، وعن الوساطة في مصالحنا، وعن التبعية في مساراتنا.

فالدول تُقاس اليوم بقدرتها على المبادرة، لا بردود فعلها.

وبمرونة مفاوضيها، لا بحدة بياناتها.

وبمقدار ما تضع من مصالحها على الطاولة، لا بمقدار ما تخفيه تحتها.

وليبيا، اليوم، تملك فرصة حقيقية لتعيد الإمساك بدورها.

فكل الطرق التي كانت تمر منا نحو غيرنا، يمكن ـ ويجب ـ أن تبدأ منا وتعود إلينا.

ولعل الأيام القادمة، أقرب مما نظن، ستشهد بداية هذا التحول، بقيادة وطنية تدرك جيدًا أن من لا يُمسك بالبوصلة، سيكون دائمًا مرهونًا لرياح لا ترحمه.