ألعاب السياسة الأساسية

ألعاب السياسة الأساسية

في زمن بدائي ما، كانت لدينا ألعاب شعبية، مثل لعبة القار أو الناطور أو الغميضة أو كر الحبل أو تخطي الجرد، أو غيرها من تلك الألعاب التي تمارس وفق المتاح ووفق أوقات الفراغ، والمشترك بينها أنها ألعاب لا قواعد ولا نتائج تسجل لها أو أهداف أو تحكيم يضبطها، إنها فقط للتسلية وتزجية الوقت، كما لعبة كنا نلعبها شبيهة بلعبة كرة اليد حيث نتقاذف كرة من جورب محشو، لكن لا حدود تحدد ملعبها ولا قواعد، ليس لها أهداف تُسجل ولا نتائج ولا سقف زمني يحدد نهايتها، ولا ملابس موحدة أو هوية لونية تحدد كل فريق، ودائما شعار هذه الألعاب «فيها وإلا هد الساس عليها» بمعنى إما أن نلعب أو نخربها. حقيقة ما يحدث في ليبيا من ألعاب سياسية شبيهة بهذه الألعاب، لكنها لم تعد من أجل المرح، ولكنها ألعاب تحدد مصير بلد وشعب وأجيال قادمة، وبعضها قد يفضي إلى حروب وفساد شامل ودولة فاشلة.

الأطراف تلعب كل مرة لعبة في هذا الخلاء الموحش، لا قواعد لها ولا نتائج يمكن إحصاؤها ومعرفة الفائز والخاسر، ولأن حتى التسلية تغيب عن هذه الألعاب المجانية فإن الكل خاسر فيها، لأن الوطن هو ملعبها والنتيجة كل ما فيه يداس تحت أقدام اللاعبين. يخرج طرف من اللعبة ويدخل طرف وتتعدد الأطراف التي لا نعرف من أين تظهر، ولن نعرف مَن مع مَن، أو من ضد من، والجمهور الواسع ليس بإمكانه متابعة هذه اللعبة لأنها غير ممتعة، ولأنه لا يعرف قواعدها، بل لأن لا قواعد لها من الأساس، ولا يتحمس لها لأنها دون أهداف، فيكتفي بسماع الهرج والمرج أو يؤلف النكت حول من يلعبون لعبةً؛ الجميع خاسر فيها، ولأن في ألعابنا الشعبية لا حدود أو مقاسات هندسية للملعب الممتد في الخلاء، فستتجاوز هذه الألعاب حدود الوطن وتصبح مفتوحة لأي تدخل إقليمي أو دولي، بل إن أطرافاً خارجية ستصبح جزءا من اللعبة، وكل من شاء يدخل وينحاز للفريق الذي يشاء، بينما بعثة الأمم المتحدة تأخذ دور التحكيم لكن لا أحد من اللاعبين ينتبه لرايتها المرفوعة أو يسمع صفارتها، فتتوه هي نفسها داخل هذه اللعبة وتصبح جزءاً منها وطرفا فيها طالما الأمر لا يترتب عنه أي نتائج، وطالما لا مجال لعقوبات المخالف فيها، لأن المخالفة والعقوبة تستلزم ميثاقاً وقوانين وقواعد يتفق عليها الجميع كي يمارس التحكيم دوره بنزاهة.

مع الوقت بدأنا ننتقل في شبابنا من الألعاب الشعبية إلى ألعاب أخرى لها قوانين واتفاقات مبدئية ولها نتائج تسجل على الورق بجانبنا، وفي النهاية يُعرف الفائز من الخاسر: أنواع من ألعاب الورق (الكارطة)، أو الشطرنج أو الألعاب الرياضية بمختلف أنواعها، وهي تعتمد على قوانين يتفق عليها الأطراف ونتائج أو أهداف مسجلة، لذلك يستمتع بها الجمهور ويتفاعل معها لأنه أيضا يعرف قواعدها ويتشوق لمعرفة نتائجها.

وفي النهاية على مستوى الأوطان والدول حسمت الألعاب السياسية طبيعتها ومتعتها في ملاعب الديمقراطية، حيث العقود الاجتماعية والدساتير والقوانين هي التي تحدد قواعد هذا اللعب ومن ثم تقبل نتائجه بصدر رحب، وعندما تكون الألعاب دون قواعد تُحترم، ودون انضباط ستتسبب نتائج هذه الألعاب في نزول الجمهور إلى الملعب، بل وفي حروب أهلية في صراع على الفوز وعلى السلطة لا تحكمه قواعد ولا قرارات تحكيم نزيه، ولا عقوبات قانونية لمن يخالف. مجتمعات جديدة تدخل ملاعب الديمقراطية بعقلية الألعاب الشعبية البدائية، وتجعلها شبيهة بلعبة كر الحبل أو الناطور أو الغميضة أو غيرها من الألعاب المزاجية، وللأسف لم يعد فيها مجال للتسلية لأن الدم قد يسيل في مثل هذه الملاعب وتتكدس الجثث مثلما كانت مباريات المصارعة العنيفة في المسارح الرومانية القديمة.

الأطراف الليبية للأسف تمارس في عصرنا الحديث مثل هذه الألعاب البدائية، ولا هدف لكل منها سوى أن تظل في السلطة؛ ليس السلطة من أجل خدمة المجتمع، ولكن لأنها الطريق الأسرع والسلس إلى المال، ورغم أنه للعبة القمار أيضا قواعد وضوابط فهم يمارسون المقامرة دون حتى قواعد، فيتحول الفساد إلى نهب، والحوار إلى حرب، والاتفاقيات إلى هراء قانوني لا يحترمه أحد، والمجتمع إلى كومبارس يظهر في خلفية هذا الصراع على السلطة والمال في أرض لا دولة بها، وحين تكون السلطة دون عَقْد ودون دولة ودون قوانين تصبح شبيهة بعصابات المافيا التي سيشكل الاغتيال وحروب الشوارع ودفع الإتاوات والمؤامرات طريقتها الوحيدة في الصراع على النفوذ والاستحواذ.

بدأت ليبيا الجديدة ما بعد فبراير بنوع من اللعب السياسي الذي يشبه الألعاب التي تتحكم فيها العقود والقوانين. بدأت بخارطة طريق مهمة ودقيقة (للتاريخ صممها المخطط الإستراتيجي د. محمود جبريل) كان من ضمنها تدبيج إعلان دستوري، سلَّم بموجبه المجلسُ الانتقالي السلطةَ للجسم الجديد (المؤتمر الوطني) بشكل سلمي في العاصمة طرابلس وفق قواعد دستورية رغم عيوبها إلا أنها كانت نوعا من الاتفاق على قواعد اللعبة الجديدة على المجتمع الليبي، ولكن مع انحراف هذا الجسم عن مهمته التأسيسية، بدأ ينقل اللعب إلى الخلاء وبشكل بدائي توقفت خارطة الطريق التي كان ضمن بنودها ألا تنتهي سنة 2012 إلا والانتخابات الرئاسية والبرلمانية قد أجريت، ووفق القواعد سلمت الحكومة الأولى السلطة إلى الحكومة التالية بإخراج يشبه ما يحدث في الدول الحديثة، غير أن الأمر كان مجرد استعراض شكلي في طبقة سياسية كانت تتجهز لنقل اللعب إلى خلائه البدائي دون قواعد ودون نتائج ودون تحكيم (من المفترض أن تشغله المحكمة العليا) لفض الخلاف بين الأطراف دستورياً وقانونياً، وتحولت المحكمة العليا ودائرتها الدستورية إلى جزيرة مهجورة وسط صراع أصبح قانونه السلاح، وحوصرت بالمسلحين كي تفرض عليها الأحكام، مثلما حوصر المؤتمر الوطني بـ200 تابوت كي يتخذ القرارات غير الدستورية والقانونية التي تخدم مصلحة تلك الميليشيات، بينما مجلس النواب الذي كان من المفترض أن يتحول إلى فريق واحد منتخب يجعل الفوز بالدولة المدنية نصب عينيه، تقسم وتحول إلى فرق صغيرة تتناحر وتشتبك بالأيدي بعد كل خلاف أو اختلاف، أو تنسحب من اللعبة مخلة بالنصاب القانوني الذي من المفترض أن يتخذ القرارات ويسن قوانين اللعبة السياسية، ويكتفي الجمهور بالصفير احتجاجاً على كل ما يحدث في الملعب.

وفي فراغ المجتمع من الدولة، ستتكالب على ملء هذا الفراغ المجموعات التي لا يمكن أن تصل إلى السلطة إلا عبر أدواتها الخارجة عن القانون: ستكون السيطرة على السلاح وسيلةً للسيطرة على المال، وكلاهما طريق مزدوج يوصل بسهولة إلى السلطة، وكان لا بد أن يتعطل الإعلان الدستوري، رغم أنه قانونياً لم يُعطل، مثلما يفعل أي انقلاب مسلح على الشرعية، وفي كل ذلك غاب اللاعب الرئيسي عن هذه اللعبة التي بدأ يهيمن عليها العنف، وهو الشعب أو الجمهور أو من قاموا فعلاً بثورة فبراير، وتركوا المجال للاعبين متطفلين على التغيير لكنهم فهموا أن تنظيم أنفسهم في مجموعات مسلحة هو ما سيخلق لهم نفوذا وقناة توصل مباشرة إلى البنك المركزي حيث ودائع الشعب كله، وهم يفهمون أيضاً أن نظام القذافي بقي لأربعة عقود يحكم مجتمعاً سائباً دون ضوابط دستورية أو قانونية لأنه هيمن على السلاح والمال وسلطة اتخاذ القرارات بالعنف، معتبراً ما سماه «الثورة المستمرة» شرعيته الوحيدة.

أذكر في فترة ما ضمن هرطقات النظام السابق أن شن هجومه على الألعاب الحديثة المقننة، خصوصا كرة القدم، وأصبح الإعلام المطبل يعتبرها ألعاباً استعمارية ويتحدث عن استبدالها بالألعاب الشعبية، وغدت البرامج الرياضية في القناة الوحيدة لا تعرض سوى ألعاب كر الحبل وتخطي الجرد، باعتبارها ألعاباً شعبية تناسب عصر الجماهير في الجماهيرية الشعبية، لكن في ظل حكم منفرد لا يضبطه دستور أو قواعد، وفي ظل مقولات «الشعب يحكم نفسه بنفسه» أو «الشعب يراقب نفسه»، كانت هذه الألعاب البدائية مناسبة لهذه الفوضى الجماهيرية لأنها تمارس دون ملعب محدد ودون قوانين ودون نتائج ودون جمهور، مثلما يحدث كل شيء في ليبيا التي أصبحت مشاريعها دون خطط أو أهداف، ودولتها دون حدود، ومؤسساتها دون قوانين ودون أجهزة رقابة أو عقوبات، حتى إن التخطيط المستقبلي اختفى، وأصبح الارتجال أداتها كما في تلك الألعاب البدائية. وأذكر أيضا أن رأس النظام شن هجومه على لعبة الملاكمة وأوقفها تماماً، باعتبارها لعبة عنيفة في الوقت الذي تحول فيه الوطن كله إلى حلبة ملاكمة، وتدلت أجساد الطلاب من المشانق في الميادين العامة والجامعات، واغتيل المعارضون داخل وخارج ليبيا، وفقط كانت الغاية من منع رياضة الملاكمة أن يطلق سراح العنف خارج هذه الحلبة الصغيرة ليكون الوطن كله حلبة، بل حتى العالم هو حلبة العنف الذي لا تحكمه قوانين ولا حدود ولا زمن محدد للعبته.