أسطوانة أيام المستقبل .. ليست جديدة (6 – 6)

أسطوانة أيام المستقبل .. ليست جديدة (6 – 6)

(يا وحدنا..)
صيحة فلسطيني في بيروت 1982
وظلت خطوات الحل السلمي تتأرجح أيام 1969. وانتهت بقبول عبد الناصر لمبادرة روجرز في صيف 1970. ثم رحل في الخريف أواخر سبتمبر. وبعده تولى قيادة مصر نائبه أنور السادات. ومع مطلع 1971 بادر بالقول كثيرا أن هذا العام حاسم سلما أو حربا. ثم تغشت الآفاق الرؤى الضبابية. وأفصح الرئيس الجديد عن تلك الضبابية غير مرة. وكانت الظروف هنا مع الحلفاء الروس تتقاطع بحدة. انتهى أمرهم بترحيل خبرائهم من مصر صيف 1972. الأصياف تزداد حرارتها وتشتعل حرائقها مع تزاحم الوقائع. السياسة فن الممكن وأحيانا مستحيل المستحيل. وكان لابد من الصبر والصمت أو إطلاق التصريحات هنا وهناك انتظارا لشيء يلوح في جدار الزمن.

السادات كان يفهم اللعبة بوضوح ومن المؤكد باعتباره رئيسا لمجلس الأمة في فترة رئيسه عبد الناصر ثم إعلانه نائبا له.. كان على علم ودراية تامة بما دار تحت الطاولات من مشاورات ولقاءات وإظهار النوايا بالتقدم نحو السلام.

كان النيهوم في تلك الفترة أيضا يتابع الوقائع من هلسنكي حيث يقيم، فيما تغرق في الجليد وغياب الشمس فترات طويلة خلال العام. برودة وثلوج هناك. وسخونة وصهد يتوالى في المنطقة عبر كل الأبعاد.. في السياسة والحرب والثقافة والفكر والاقتصاد. المنطقة على حقول من الألغام وتنهض كل صباح وتحك عيونها مع رائحة البارود. هنا أشار النيهوم إلى أنه لابد ان يندلع السلام. وفي تداعيات مقبلة تلك الأيام الساخنة بعد رسالته لعبد الناصر ثم مقالاته المختلفة عن موضوع الحل السلمي الذي ساد المنطقة.. أرسل يوم 27 أغسطس 1971 إلى صديقه جلال الدغيلي وكان سفيرا لليبيا في ألمانيا الغربية رسالة طويلة يقول في بعض من سطورها بعد زيارة لطرابلس وبنغازي: (أتيحت لي الفرصة لكي أشهد ندوتين عامتين. قلت رأيي وسمعت آراء الآخرين وأحس بالرضا تجاه ضميري. قابلت العقيد القذافي في بيته. شرحت له وجهة نظري بالتفصيل في قضية الصحافة والإعلام. تحدثت معه عن كل مشكلة خطرت ببالي. ناقشت أمامه وجهة نظري بشأن الاتحاد الاشتراكي والإعلام ووعدته بأن أكتب ذلك النقاش على الورق وقد كتبته في الأسبوع الماضي وبعثته للنشر. قضية واحدة لم أختر أن أتعرض لها مع العقيد القذافي ولا أستطيع أيضا أن أتعرض لنقاشها على الصحف. وهي قضية تخص حكاية المفاوضات مع إسرائيل. إنني أتمنى أن تتاح لي الفرصة ذات مرة لكي أعرض أمامك وجهة نظري تجاه هذه المشكلة في رسالة طويلة.. أعني إذا كنت تعتقد أن ذلك لن يتسبب في مضايقتك بطريقة ما).

جانب من سطور الرسالة تحقق بنشر النيهوم نقاشه عن الإعلام مع العقيد القذافي في مقالة مطولة استغرقت عدة صفحات من جريدة الحقيقة في بنغازي مطلع سبتمبر 1971. كانت بعنوان الصحفي والدلال. أما الجانب الآخر الذي صارح به صديقه الدغيلي حول عزمه مناقشة موضوع المفاوضات مع إسرائيل التي بدأت تنتشر، رغم تسربها من تحت الركام، فلم يفصح عنه إلى وفاته ولم يناقشه على الإطلاق. فما هي الدوافع أو الأسباب التي جعلت النيهوم يبادر أو يتقدم من جهته كاتبا ومثقفا ليبيا دون غيره للحوار حول هذا الموضوع (الحساس جدا). ماهي أفكاره في هذا الصدد نتيجة لمتابعته المستمرة لمسألة التسوية السياسية. هل كان لدى النيهوم ما يقوله بشجاعة.. أو بخوف وتردد. هل كانت له تنسيقات مع أطراف أخرى خارج ليبيا لم يشر إليها. هل ثمة تكليف من السلطة في ليبيا أو غيرها لجس النبض بواسطته للوصول إلى وجهة نظر محايدة أو منحازة. هل الأيام البعيدة المقبلة ستحمل لنا وتكشف ما حدث.. ثم توقف؟

وعلى أي حال فإن طريق المفاوضات مع إسرائيل الذي انتهى بالاعتراف بها وإنهاء حالة العرض بدأت ولم تتوقف عن طريق مجموعات من المثقفين وأصحاب الفكر في مصر وإسرائيل وفي مواقع عديدة من العالم ونشطت هذه الاتصالات ولعلها وضعت أساسا لمراحل جديدة في العلاقات العربية مع إسرائيل فيما لوحظ انشقاق الآراء وتصاعد حدة العنف والرفض التي طالت شخصيات فلسطينية أسهمت في هذه الاتصالات بتكليف من منظمة التحرير الفلسطينية (عصام سرطاوي.. مثالا). السلام له ضحاياه فوق أرصفة العالم أيضا بعيدا عن جبهات الحروب.

المنظمة، كما يروي البير ارييه في كتابه الذي تمت الإشارة اليه، أكد بقوة خلاله بأن الاتصال بين منظمة التحرير الفلسطينية ودعاة السلام لها تفاصيل لم يقف بشأنها الكثيرون. تحدث عن ناشر فرنسي يقيم في داكار بالسنغال اتصل به فتحي عرفات شقيق أبو عمار وكان مسؤولا عن الهلال الأحمر الفلسطيني وأخبره بأنه يعلم بالاتصالات المسبقة مع اليهود الشيوعيين المصريين في باريس من خلال علاقاتهم بدعاة السلام في داخل إسرائيل وطلب منه أن يوصله بهم. وبالفعل نسق الناشر بيوسف حزان وهنري كورييل وبناء على ذلك التقى الجانب الإسرائيلي الذي يرأسه جنرال سابق في الجيش مع الجانب الفلسطيني برئاسة عصام سرطاوي قبل ان يلاقي حتفه على يد مجموعة أبو نضال.

أيام اختلطت فيها رائحة الحروب بزيتون السلام. سارت في طرق صعبة. وتسربت أنباؤها ولم تعد غريبة رغم صوت الرفض الذي هدأ مع الأيام وغدا الامر عاديا جدا وألفه المواطن العربي حتى شاهد العلم الأزرق والأبيض والنجمة يرفرف في بعض عواصم العرب.

فهل كان العرب يملكون سياسة واضحة تجاه السلام. وهل خبروا بتجاربهم ومعارفهم كيف وصلوا إلى فخ السلام أو غيره. هل حققوا ما أرادوا. هل العرب كانوا يملكون إرادة السلام. هل يشعرون بالسلام الآن وفقا لأحلامهم القديمة والمعاصرة. هل ما يجري اليوم فوق الأراضي المحتلة يعبر عن السلام المحفوف بالألغام والأكاذيب. هل تحررت الأرض العربية حقا.

وفي كل الأحوال فإن تسريبات عبد الناصر ليست سرية. اندلعت فجأة مثل السلام الضائع ما بين أبريل ومايو. واستغرب الكثيرون واندهشوا. وفي ذلك كله لا يوجد ما يدعو للعجب. عبد الناصر لم تسيء إليه هذه التسريبات فلم تأت بجديد في تاريخنا العربي المعاصر. كانت في الواقع مجرد (تحصيل حاصل) هي خلاصة أمور طرحها وتابعها في حياته بعد يونيو 1967 مع رجاله وأصدقائه في الداخل ومع العديد من القنوات وزعماء العالم للوصول إلى حل سلمي ينقذ مصر بالدرجة الأولى. وتؤكد أنه سئم مزايدات الآخرين وأشاح بوجهه عنهم تماما. سقط في نظره (التقدميون)وفاز بثقته (الرجعيون). كانت تلك اللحظات الأخيرة في عمره ويبدو أنه كان ينوي تحقيق السلام المستحيل في المنطقة وسط حقول يغمرها الشوك وتعتريها الصخور. التسريبات التي تسربت أخيرا وأثارت الكثير من الجدل لا جديد فيها. ستكون مثل الأسطوانة المعادة المكررة التي يجيدها العرب رغم الداء والانواء!!