اجتهاد النملة وشغف الجمل

اجتهاد النملة وشغف الجمل

يقولُ مثل شعبي: «اللي تلمّه النملة في عام يأكله الجمل في لُقمة»
والمعنى واضح. أي إن ما تجمعه نملة خلال عام من حبّات شعير بمستطاع جمل أن يلقفه في لقمة واحدة. وهذه حقيقة، إلا أنّها، كما يبدو لي واضحًا، لا تنصفُ النملَة، كونها تظهرها في وضعية مغلوب، لا حول له ولا قوة!

نَهْمُ الجملِ، وما ينزله بمخزون عام من حبّات شعير تخصُّ نملة واحدة، لا يفضي بأي حال إلى إشباع نهمه. ولا يؤدي، في ذات الوقت، بالنملة إلى البكاء أو الموت جوعًا. ربما يصيبها بشيء من إحباط وغضب، وقد يثقلها بالكثير أو بالقليل من الحزن. لكها لن تضيّع ثانية واحدة في التفكير عما يجب فعله. وهذا سرّ قوتها.

من المهم التذكير أنّه في المعركة غير المتكافئة بين الاثنين لا ينتصر الجمل، رغم كبر حجمه وشدّة نهمه، لأن النملة لا تستلم أمامه، ولا ترفع له الراية البيضاء. ولذلك السبب، تتواصل المعارك، وتطول بينهما الحرب. ومن المستحيل بمكان، كما يؤكد التاريخ وتعلمنا أمّنا الطبيعة، أن يخسرَ حربًا كائنٌ دؤوب لا يكلُّ ولا يتعبُ من الكدح من أجل البقاء. وبالطبع، هذا لا يعني الفوز في كل المعارك.

وما يحدث هو أن النملة حين تعود إلى مقرها، ولا تجد ما جمّعت طيلة عام من حبّات شعير، تغادر المكان سريعاً، وتبدأ مجددًا وبعزم مهمة البحث عن أقرب مخزن أو مزرعة حبوب، لتبدأ ثانية تجميع مخزون آخر، يحلّ مكان الذي فقدتْه للجمل.

هذه الصورة، على الرغم من بساطتها الظاهرة، تعدّ، في رأيي، مُدخلا قد يساعدنا على فهم ما يحدث في الواقع الليبي من صراع بين دعاة السلام ودعاة استمرار وضعية فرض الأمر الواقع بقوة السلاح، منذ انتفاضة فبراير(شباط) 2011 إلى يومنا هذا.

طرفٌ دؤوب مثل نملة، يحب السلام والاستقرار ويسعى إلى إحلالهما، ويشكّل الأغلبية. وطرفٌ نهمٌ مثل جمل، عدواني، يتخندق في وضعية حياتية مفروضة بالسلاح، تتيح له نهب المال والسلطة والنفوذ. وهم أقلية مكروهة. وكلما ساد سلام، وبدأت تهل بشائر استقرار تبشّر بعودة الحياة إلى دورتها الاعتيادية، يظهر قادة هذا الفريق العدواني، من صنّاع الحروب وأعداء السلام، من جديد. فيضرمون نيران حرب جديدة، تقضي على ما جرى تجميعه خلال شهور طويلة بدأب من سلام واستقرار، حبّة حبّة، ويوما إثر آخر.

ومثل النمل، تعود الأغلبية الصامتة المسالمة بعد توقف المعارك، إلى بناء ما تهدّم، وإلى ترميم ما تصدّع من دعائم وجسور لتوكيد السلام.
تتواصل المعركة على هذا المنوال بلا توقف. والأهمُّ فيها أن الحلم بالسلام وبالاستقرار وببناء وطن يتسع لجميع أبنائه ويكون بهم رؤوفا رحيما قد لا يبدو على السطح قريب التحقق، نظرًا لشدة نهم العدو وسطوته. إلا أن الدأب المتواصل للأغلبية الصامتة نحو تحقيق السلام يفعل مفعوله في دفاعات العدو الحصينة بمرور الوقت، بشكل بطيء، ولكن بفعالية.

في الحالة الليبية المتأزمة، تبدو التفاصيل، حتى الغامض والمعقد منها، شديدة الوضوح. ذلك أن الصراع القائم في أساسه، منذ سنوات تقترب من الخمس عشرة، ليس كما يبدو على السطح، بين جماعات لصوصية مسلحة، تتنافس على النهب والغنيمة. بل هو، في رأيي، بين فريقين: الأول يتكوّن من أغلبية صامتة تناهض وتعادي الحرب وتدعو إلى التوافق والتصالح والاتفاق على عقد اجتماعي جديد، يكوّن أرضية صلبة وأساسا متينا لسلم اجتماعي، قائم على أسس دستور مستفتى عليه شعبيا، ونصوص قانون، يفرد جناحيه على الجميع بالحماية وبالعدل. ويتكوّن الفريق الثاني من جماعات لصوصية مسلحة، ترى في السلم عدوًّا، وفي استقرار الأوضاع وعودة الأمن والأمان نهاية غير مرغوبة تقضي عليهم.
ألا يذكر ذلك، إلى حد كبير، بما يحدث في فلسطين؟