في فترتين زمنيتين!

في فترتين زمنيتين!

ليس بمقدرونا قفل باب الماضي، لأنه جزء من ذاكرتنا، بل هو ذاكرتنا. كما ليس بمقدورنا قطع الطريق على المستقبل ونحن في الحاضر نخطو إلى سبيل لا نعرف نهايته، لأنه المجهول. نتطلّع إلى المستقبل بالوهم المستحيل، بينما نتطلّع إلى الماضي بيقين الذكريات، وحقيقتها التي عشناها واقعا.

نحن أبناء الأمس الجديورن به في الذاكرة على الرغم من المساوئ، فلم نختر بالأمس واقعاً معيّناً لنعيشه كما ينبغي لنا في أحلامنا الماضية قبل أن يكون ذلك الواقع مستقبلا. لقد كان الأمل صاحبنا القريب في الماضي، كما هو صاحبنا في الحاضر، لكنه كان كطيف الوهم منعشاً قليلاً ومؤلماً كثيراً في حقيقة الواقع الذي كُنّا نعيشه. وكانت الحقيقة تقول: إن الزمن الذي يمضي هو مثل الحقيقة التي تغيب ما لم يكن لها مكان في الذاكرة، وما لم تكن الذاكرة واقعاً مثالياً وحقيقياً في الزمن.
كل شيء جميل تركناه خلفنا في الماضي لا يمكن استعادته في الحاضر، لأن الزمن تغيّر بكل ما فيه من ذكريات مضت، ولن تعود لنعيشها واقعاً جديداً، فبالتأكيد نحن لسنا في ذلك الزمن الجميل الذي خرجنا منه متأسفين على ذكرياتنا فيه.. ذلك الزمن الجميل الذي تميّز بالقيم النبيلة والبساطة والجمال في الحياة الاجتماعية والثقافية. قد يختلف تحديد «الزمن الجميل» من شخص لآخر، لكنه غالباً ما يرتبط بعديد الصفات المُشتركة، وأهمُّها القيم الاجتماعية الأصيلة حين كان الناس يتمتّعون بروابط اجتماعية قوية، وعلاقات قائمة على الودّ والاحترام والاحترام، فالجيران كانوا يعرفون بعضهم جيداً، مّا جعلهم مترابطين بروح المودّة والإخاء بين الأفراد، كِباراً وصغاراً. كما أن الحياة لم تكن معقّدة كما هي اليوم، حيث كانت البيوت مفتوحة بين الجيران، ومجالس الأحياء الشعبية عامرة بالحكايات.
لقد أخذت تلك الحياة البسيطة صفة «الزمن الجميل» بشخصيّات نجومه في المجتمع والفن والأدب، وهو الزمن الحقيقي الذي نفتقده اليوم في حاضرات المجتمعات العربية، حيث تميّز الزمن الجميل بالموسيقى الأصيلة، والأفلام الراقية، والمسلسلات التي تحمل رسائل إنسانية عميقة. كانت الأغاني ذات كلمات معبِّرة وألحان خالدة، مثل أعمال أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد وأسمهان وليلى مراد وعبد الحليم وصباح وشادية وفيروز، وغيرها من الأعمال التي لا تزال محبوبة حتى اليوم. كما تميّز الزمن الجميل بالهدوء والأمن والأمان وبساطة العيش، ووسائل ترفيه أكثر بساطة، لكنّها أكثر متعة مع الألعاب القديمة التي كُنّا نصنعها بأيدينا، والسهر والحكايات والمسرح والكراكوز، قبل أن تغزو حياتنا تلك التكنولوجيا بصندوقها الساحر (التلفزيون).
كانت وسائل الترفيه في ذلك الزمن أكثر بساطة ومتعة، سواءً من خلال الجلسات العائلية، أو مع الأصدقاء في المقاهي، أو مع قراءة الكتب والصحف والمجلات، أو مشاهدة المسرحيات ودخول السينما.. لم تكن التكنولوجيا قد بدأت تسيطر -آنذاك- على حياة الناس، وتفقدهم تلك العلاقات الحميمية الدافئة مع مكوِّنات الحياة الاجتماعية وبساطتها.
في ذلك الزمن كان التعليم يعتمد على المعلِّم القدوة، وكان الطلاب يكنّون احتراماً كبيراً لأساتذتهم. كما أن القراءة كانت جزءاً أساسياً من حياة الناس، حيث كانت الكُتب والصحف والمجلات تُقرأ بشغف، وكان هناك اهتمام بالثقافة العامة من خلال ارتياد المراكز الثقافية والمكتبات العامة.
في ذلك الزمن الطبيعي لم يكن هناك انتشار واسع للوجبات السريعة المستوردة كما هي الحال اليوم، وكانت الأطعمة الشعبية تُحضَّر في المنازل بمكوِّنات طبيعية، مّا جعل الغذاء أكثر فائدة على صحّة الكِبار والصغار. وعلى الرغم من صعوبة الظروف الاقتصادية في ذلك الزمن، فإن الناس كانوا أقل توتراً وضغوطاً نفسية مقارنة بالزمن الحاضر، لأن الناس، في الطبيعة، لم يكونوا مهووسين بالتكنولوجيا أو منصات التواصل الاجتماعي كما في الزمن الحاضر، وهي الظاهرة التي تستهلك معظم الأوقات، ولا تستثمر وقتاً واحداً لفائدة عامّة.. فهل كان الزمن الجميل مثالياً حقاً ولهذه الدرجة من المفارقات بين الزمنيْن؟!
على الرغم من كل هذه الصفات الإيجابية، لا يمكن اعتبار الزمن الماضي مثالياً، فكل زمن له تحدّياته ومشاكله، ولكن الفرق أن البساطة والقيم الجميلة بين الناس كانت أكثر حضوراً وفاعلية من الحاضر، مّا يجعلنا نشعر بالحنين إلى الماضي باستمرار، لفقدنا الأمان في الحاضر، ولحاجتنا إلى الطمأنينة التي كُلَّما كبرنا في العمر افتقدناها في الزمن.
الماضي هو الزمن الحقيقي الذي عشناه يقيناً، وهو يعيش في ذاكرتنا، أمّا الحاضر فهو على كفّ الخوف الدائم من المخاطر، بينما المستقبل مجهول تماماً، قد يرانا الآن من بعيد بوضوح، ويعرف عنّا الكثير لقادم الأيام، ونحن لا نعرف عنه شيئاً على الرغم من الأحلام والتمنّيات والوعود التي نضربها في الحياة، شرقاً وغرباً، وتخذلنا في الزمن!