لغة الذكور أم تفكير ذكوري؟

لغة الذكور أم تفكير ذكوري؟

تعاني الإناث في هذا العالم، وبالأخص في منطقتنا العربية، ومنذ أزمان سحيقة من هيمنة فكرٍ ذكوري طاغٍ يكادُ يمحو كينونتهن بطرقٍ شتى. وإذا كان العالمُ «الأول» قد تعرّض إلى تحوّلات كبرى في هذا الشأن بسبب التبدلات الهائلة التي أعقبت الثورة الصناعية، والثورة الدينية ضد هيمنة الكنيسة والمؤسسات المشابهة على فكر الناس ونمط حياتهم وطرق تفكيرهم أجبرته تدريجيا على الاعتراف بمكانة المرأة في المجتمع ودورها في الحياة، فإن عالمنا الذكوري العربي تحديدا لا يزال مربوطا بنيرِ ذكوريةِ المعاملات، وبالتالي اللغة السائدة.

في مطار بنينا، وفي صالة برنيق الأنيقة التي تعبّر عن مقدرة وكفاءة الاستثمار الخاص على تجويد الخدمات المقدّمة إلى الناس بما يضمن تمتعهم بسبل الراحة والرفاهية، كما في بقية العام المتحضر، استوقفتني لافتة تشير إلى مكان مخصّص لركّاب الدرجة الأولى، المتعارف عليها باسم Business class، كما تشير اللافتة باللغة الإنجليزية.

وفي هذا المكان من سبل الرفاهية النسبية ما ليس في غيره، وهو أمرٌ طبيعي. أما الجملة بالعربية المصاحبة على اللافتة فتُعلن بكل جرأة أنها صالة رجال الأعمال. ومع ما في هذا العنوان من مخالفة للحقيقة ومنافاة للواقع، فجُلّ ركاب الدرجة الأولى من الذكور والإناث! إضافة إلى ذلك فمتطلبات الحياة الحديثة، وتطوّر وضع المرأة ودخولها سوق العمل، حتّم ألاّ يكون سوق العمل مقصورا على الذكور، بل حتّم بروز طبقة نساء الأعمال.

تداعت إلى ذاكرتي نقاشات سابقة ومقالان كتبتهما في هذا الشأن حول هيمنة اللغة الذكورية، فمن الواضح أن واضعي أسس التقعيد الأوائل للغتنا كانوا من الذكور، من أبي الأسوَد الدؤلي إلى الفراهيدي إلى سيبويه إلى الكسائي وغيرهم، وبالتالي ما كان للأنثى أن تجد مكانة تحفظ لها حقها في أن تعترف بها لغتها على أقل تقدير. وفي أبسط مثال للجورِ على الإناث، تصرّ اللغة العربية على أن يعامل الجمعُ اللغوي معاملة جمع المذكر، حتى لو كان المشار إليه جمعا من النساء، ولو فاق المليون، بشرط أن يكون بين هذا الجمع «ذكرٌ» واحد، وهكذا يلغي وجود هذا الذكر مجتمعا كاملا من النساء، ومن ثم تتوجب الإشارة إليه بصيغة جمع المذكر لا جمع المؤنث.

تداعى إلى ذاكرتي أيضا كتاب رائعٌ يتعرض في جانب منه إلى هذا الشأن، وضعه الراحل الكبير نصر حامد أبوزيد بعنوان «دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة». وجاء هذا الكتاب بعد المحنة الكبرى التي تعرض لها، وانتهت بحكمٍ هزليّ جائر بتكفيره، وتفريقه عن زوجه وهجرته عن بلده.

لا يمكن اختزال أفكار نصر حامد العظيمة حول تأويل النص في فقرات أو جُمل عدة، لكن سأضطر إلى ذلك بسبب ضيق المقام، فمثلا هو ينبذ الإشكالية الحضارية التي نعيشها اليوم حين يقول: إن التمسك بالمعاصرة أو الحداثة على مستوى الحياة المادية، والإصرار في الوقت نفسه على التفكير كما يفكر السلف، يمثّلان حالة من الانفصام المرضي. ويستهجن معاملة الإناث بدونية بقوله: وكأن كل فاعلية للأنثى في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية هي فاعلية هامشية لا تكتسب دلالتها إلاّ من خلال فاعلية الرجل/الذكر.

وهذا بالضبط ما رأيتُه في لوحة صالة برنيق! وربما كان أجدى بصاحب اللوحة، تجنبا للحرج والوقوع في الخطأ، أن يتحايل على ذكورية اللغة، ويكتب فيها «صالة أصحاب الأعمال»، التي تشمل الذكور والإناث!