أوكرانيا.. اتفاق معلق على «خيوط المصالح»

فى دهاليز العواصم الكبرى، يُصاغ وهم السلام بأيدٍ ترتجف من حسابات الربح والخسارة. ومنذ أن عاد دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوى فى يناير 2025، استعادت واشنطن لهجتها الحادة وسعت لتقمص دور «صانع السلام» بين كييف وموسكو بدعوى الرئيس القادر على صنع السلام فى ٢٤ ساعة وهو ما ردده خلال الحملة الانتخابية، لكن الحقيقة أن كل مفاوضة كانت تولد من رحم أزمة وتُدفن فى مقبرة الشكوك. ما بين قاعات الرياض وأروقة لندن ودهاليز جدة وصولاً إلى صقيع سانت بطرسبرج، لم تكن جولات الحوار سوى محاولة لتجميل واقع دموى بلغة دبلوماسية رخوة.
أوكرانيا غائبة حينًا، ومهمّشة أحيانًا، والبيت الأبيض يدير الأوركسترا بمستشارين جدد، على رأسهم ستيف ويتكوف، رجل الصفقات الذى يحاول هندسة هدنة لا أحد يثق بصلابتها. أما موسكو، فتناور كعادتها، تطلق إشارات وتكتم النوايا. أوروبا تراقب، تعترض، وتُقصى. والمحللون من كل حدب وصوب يختلفون فى التوصيف، لكن يتفقون فى الشك: هل ما يُنسج اليوم هو سلام حقيقى… أم نسخة جديدة من سراب دولى يُعاد تدويره؟
الخطاب العلنى الذى يركّز على الدفاع عن السيادة الأوكرانية، لا يمكن إغفال البعد الاستراتيجى الذى يحكم التحرك الأمريكى فى هذا الملف. أوكرانيا ليست فقط حليفة محتملة فى مواجهة موسكو، بل تمثل أيضًا بوابة جيوسياسية لا تقدّر بثمن على حدود روسيا، وساحة نفوذ مستقبلية لمن ينجح فى إعادة تشكيلها بعد الحرب.
تدرك واشنطن جيدًا أن تثبيت موطئ قدم دائم فى كييف يمنحها أوراق ضغط طويلة المدى فى معادلة الأمن الأوروبى والهيمنة الإقليمية من خطوط الغاز إلى قواعد الناتو المؤجلة، ومن إعادة الإعمار إلى عقود الدفاع، تُطل المصالح الاقتصادية والعسكرية برأسها خلف ستار «الدبلوماسية».
وفى ظل هذا التعقيد، تصبح مفاوضات السلام ساحة مزدوجة: علنية للتهدئة… وسرية لتقسيم النفوذ. والأرض التى تُقصف اليوم، تخطط شركات أمريكية لأن تستثمر فى إعمارها غدًا.
وبعيدًا عن الشعارات، تدور فى الكواليس مفاوضات غير معلنة تتعلق بالسيطرة على الموارد الطبيعية الحيوية فى أوكرانيا، وعلى رأسها المعادن النادرة مثل التيتانيوم والليثيوم، التى تمثل ثروات استراتيجية للعقود المقبلة. هذه المعادن ليست مجرد مواد خام، بل هى مفاتيح القوة فى صناعات التكنولوجيا والتسلّح والطاقة النظيفة. ومع تزايد حاجة الغرب إلى بدائل عن الصين وروسيا، تبدو أوكرانيا كنزًا لا يمكن تفويته.
إلى جانب ذلك، تُعيد واشنطن النظر فى خريطة خطوط الطاقة، مستهدفة إحياء مشاريع الغاز الأوكرانية إلى أوروبا ولكن فى ثوب جديد، يُقصى موسكو ويمنح الشركات الغربية يدًا عليا فى سوق الطاقة الإقليمى. إنه سلامٌ مشروط، تحركه المصالح وتُرسم ملامحه فى مراكز النفوذ لا على خرائط الحدود. وبينما يُرفع شعار إنهاء الحرب، تتشكل على الأرض ملامح استثمار طويل الأمد فى بلد جريح.
وفى فبراير 2025، أطلق دونالد ترامب نسخته الجديدة من دبلوماسية الصفقات، مدفوعًا بمستشارين جدد فى ولايته الثانية، أبرزهم ستيف ويتكوف، العقل الاقتصادى، ليقود جولات تفاوضية بين بوتين وواشنطن فى ظل غياب كييف المتكرر.
١٨ فبراير.. قمة الرياض كانت أول اختبار، وثائق تفاهم بين أمريكا وروسيا… وأوكرانيا خارج القاعة وبالتالى رفض زيلينسكى النتائج، واعتبر ما جرى «صفقة فوق رؤوس الأوكرانيين»، رافضًا أن تُدار الحرب كأنها نزاع حدودى بين قوتين.
وفى مارس، استضافت جدة مفاوضات بين الأمريكيين والأوكرانيين، بإشراف مايك والتز، مستشار الأمن القومى. ولأول مرة، طُرحت الورقة الأوكرانية بوضوح، لكن غياب روسيا جعل الطاولة غير مكتملة. سُجل تقدم فى المسودة الإنسانية، لكن العسكرى والسياسى ظلّ مجمّدًا.
أما فى سانت بطرسبرج عاد ويتكوف للقاء بوتين فى جلسة مغلقة وصفتها موسكو بـ«المثمرة». لكن خلف المصطلحات الدبلوماسية، لم تظهر نتائج ملموسة. ويتكوف أبدى تفاؤلًا علنيًا، متحدثًا عن «سلام دائم»، لكن فى واشنطن، تساءل كثيرون: هل هو تفاؤل صادق أم تغليف لمأزق دبلوماسي؟
وفى إطار الآراء السياسية انتقد ماركو روبيو وكيث كيلوغ، من أبرز الأصوات الجمهورية، انفتاح ترامب على موسكو، مطالبين بموقف أكثر صرامة، وعدم تقديم أى تنازلات بشأن انضمام أوكرانيا للناتو حيث وصف روبيو التفاوض بأنه «رهان خاسر»، أما كيلوغ، المستشار العسكرى السابق، فرأى أن «أى تهدئة دون ضمانات، تعنى هدنة لحرب مؤجلة».
فى المقابل، توماس رايت، الباحث بمؤسسة بروكينغز، شدد على أهمية استمرار الدعم الأمريكى لأوكرانيا باعتباره ركيزة أساسية لأى تفاوض جاد. وأشار إلى أن «تليين الموقف الأمريكى سيمنح روسيا تفوقًا استراتيجيًا يطيح بأى توازن على الأرض». فيما حذر جون هيربست، السفير الأمريكى السابق فى أوكرانيا، من أن بوتين يسعى لإطالة أمد التفاوض. وفى تحليله لمحادثات مارس، قال إن الكرملين يحاول «إغراء ترامب بصفقة تُظهره كصانع سلام، بينما تحتفظ روسيا بمكاسبها العسكرية».