كانط.. والفلسفة النقدية

إن القارئ لمنابع الفكر الفلسفي الألماني يستنتج أن من أهم أعلام هذا الفكر حتى النصف الأول من القرن العشرين الميلادي هو الفيلسوف “إيمانويل كانط” (1724م – 1804م)، الذي أنتج الاتجاه المثالي في الفلسفة الألمانية، كما تميز بنزعته الأخلاقية والإنسانية والعقلية، وما ترتب عليها من فكر تربوي كان له أثر واسع في المجتمعات الغربية عامة والمجتمع الألماني بشكل خاص. ومن أهم مؤلفاته: نقد العقل الخالص (بالألمانية: Kritik der reinen Vernunft)، ونقد العقل العملي (بالألمانية: Kritik der praktischen Vernunft) وهو يتعلق بالأخلاق، ونقد القدرة على التحكيم (بالألمانية: Kritik der Urteilskraft) وهو متعلق بالجمال والغاية. ولكن كيف قدم لنا كانط الاتجاه المثالي، ومن ثم أسس لفلسفته النقدية؟
عزيزي القارئ، يتعبر كانط من مشاهير الفلاسفة المحدثين، ويري بعض المؤرخين والنقاد أنه عملاق الفلسفة الحديثة ومؤسس الفلسفة النقدية وزعيم للمدارس المثالية الألمانية. لقد عمل أستاذًا للفلسفة في جامعة لكسمبورغ، وكان جوهر فلسفته الإيمان بوجود مفاهيم قبل التجربة أو خارجه عن نطاقها وهذا ما يشبه عالم الأفكار عند أفلاطون. فالعالم الخارجي يشكل مادة الإحساس فقط إلا أن العقل هو الذي ينظم هذه المادة في المكان والزمان، ويمد الإنسان بالتصورات التي عن طريقها تفهم التجربة. فالحواس والعقل يلعبان دورًا كبيرًا في المعرفة مؤكدًا مغلاة الفلاسفة العقلانيين في دور العقل ومبالغة التجريبيين في الوقوف فقط عند تجاربهم الحسية. وماذا عن المرحلة النقدية؟
صديقي القارئ، النقد في الاصطلاح العام معناه امتحان الشيء من جهة قيمته. ونقد العقل الخالص هو امتحان لقيمة العقل نفسه، من حيث استعماله النظري الذي يتوخى الحقيقة غاية له؛ ونقد العقل العملي هو امتحان لقيمة العقل من حيث إنه مدبر للعمل، وأن غايته ثبوت الأخلاقية. وهذا الاستعمال للفظ “النقد” criticism قد أدخله كانط في الفلسفة؛ ولذلك أطلق مؤرخو الفلسفة على مذهبه اسم “النقدية” أو “الفلسفة النقدية” وإن يكن هو نفسه قد وصف عصره بأنه “عصر النقدية التي ينبغي أن يخضع لها كل شيء. إن الدين علي أساس قداسته، والقانون على أساس جلاله، كثيرًا ما يقاومان أي محاولة تبتغي التمحيص لأقاويلهما. ولكن حصول هذا يشير الشبهة بأقاويلهما لا تقوم على سند صحيح، ولم يعودا يتوقعان ذلك الاحترام غير المتكلف الذي يؤديه العقل للأشياء التي يتبين ثباتها على اختيار البحث الحر.
وفي الختام، لقد اعتبر النقاد والفلاسفة أن مثاليته مثالية نقدية لها صفتان؛ أولهما: أنها مثالية نقدية لأنها وجهت اهتمامها إلى وضع حدود للعقل، عليه ألا يتعداها إلا في حدود التجربة الممكنة. وثانيهما: أنها شرطية لأنها تضع الشروط الأولية التي تجعل التجربة ممكنة، وهي شروط عقلية يضعها العقل دون الاعتماد على التجربة مثل مفهوم المكان والزمان والسببية، وهي أطر عقلية تنظم المعرفة التي تأتي عن طريق حواسنا.