100 يوم «ترامبية».. ضد المنطق

100 يوم «ترامبية».. ضد المنطق

خلال 100 يوم من ولايته الثانية، قلب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب السياسة الخارجية الأمريكية رأسًا على عقب، بإمكاننا القول أنه أنهى السلام النسبى فى نصف الكرة الغربى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية محاولًا تحقيق توازن دقيق بين الردع العسكرى أو الحلول الخشنة، والدبلوماسية المرنة، واضعًا نصب عينيه هدفين متلازمين: تأكيد الهيمنة الأمريكية على الساحة الإقليمية، وإدارة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة.. وكأن ترامب الرجل الثمانينى قد عاد ليقلب الأوضاع السياسية الراهنة داخل الولايات المتحدة وخارجها، منطلقًا من شعار «أمريكا أولًا» الانعزالى.

مائة يوم كانت مصحوبة بأحداث تاريخية كبرى، ففى ثلاثة أشهر فقط، دق ترامب مسمارًا فى جدار الثقة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين واستطاع إضعاف التحالفات التى كانت قائمة منذ الحرب العالمية الثانية، وتسبب فى نفور أقرب أصدقاء الولايات المتحدة، وقطع المساعدات عن الأوكرانيين وتوترت العلاقات مع حلف الناتو، وهذا شجع منافسى الولايات المتحدة فى العالم، فالرسوم الجمركية التى فرضها ترامب، إذا تم تنفيذها، ستؤدى إلى تعطيل التجارة العالمية وتحدث صدمات فى سلاسل التوريد، وتصاعد المخاوف من حدوث ركود، فكما لو أنه يخوض حربًا تجارية عالمية، قد توقف التجارة مع بعض الدول، مثل الصين لا سيما مع سعى الرئيس الصينى شى جين بينج إلى تجنيد حلفاء تجاريين للولايات المتحدة فى المنطقة، وفى ظل سعى كل من الصين وروسيا إلى توسيع نفوذهما فى المناطق الاستراتيجية بالعالم من خلال الاستثمار ومبيعات الأسلحة والتواصل الدبلوماسى، مما يوفر بدائل عن الولايات المتحدة.

فى حين قال الرئيس الأمريكى إن حكومته من أفضل الحكومات فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، لا يبدو الأمر كذلك ليس فقط للمراقبين والمحللين السياسيين العالميين ولكن أيضًا بالنسبة لقطاع ليس بالقليل من الأمريكيين الذين يرون أن المؤسسات الرئيسية المسئولة عن صنع السياسة الخارجية والأمن القومى فى الولايات المتحدة تمر، فالبنتاجون مثلًا يمر بفترة عدم اتزان تحت قيادة بيت هيجسيث، الذى انعكست قيادته المتقلبة وغير المستقرة فى تصفية حسابات بين كبار موظفيه، بينما تورط مستشار الأمن القومى مايك والتز، وآخرون فى فضيحة بسبب محادثة مسربة عبر تطبيق سيجنال.

وزارة الخارجية بقيادة ماركو روبيو تشهد تغييرات جذرية، كلها تسير فى فلك ترامب الشخص وميوله وأهوائه فمثلًا يتم تهميش الدبلوماسيين الأمريكيين لصالح مبعوثين ترامب مثل ستيف ويتكوف المطور العقارى صاحب الخبرة المحدودة فى السياسة، ويوصف بعض الأشخاص الفاعلين فى البيت الأبيض بأنهم غير مؤهلين ويديرون السياسة بارتجال، هم فقط يعجبون ترامب ويحظون بثقته وهذه وحدها تكفى، ويرى المراقبون أن تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سيقلل من القوة الناعمة الأمريكية لأجيال قادمة.

فيما يخص الشرق الأوسط تبنى الرئيس ترامب نهجًا غامضًا اعتمد إدارة العلاقات بعقلية صانع الصفقات، لا تستطيع أن تحدد اتجاهه بدقة، يعتقد أنه سيعيد تشكيل معادلات القوة الإقليمية وتعزيز النفوذ الأمريكى بسهولة وسط كل هذا التعقيد، ارتكزت مقاربته فى الشرق الأوسط على ثلاثة محاور رئيسية تمثل الأول فى تحقيق الاستفادة المادية وتشجيع تدفق الاستثمارات وإبرام الصفقات التجارية كوسيلة لتعزيز النفوذ الاقتصادى الأمريكى فى المنطقة، وتبرز فى هذا السياق الاستثمارات الخليجية لاسيما السعودية والإماراتية التى تم الإعلان عنها، بضخ استثمارات ضخمة فى الاقتصاد الأمريكى مقابل تعزيز الشراكات الأمنية والتكنولوجية، أما المحور الثانى فتبنى تقليل الانخراط المباشر لواشنطن فى تسوية النزاعات الدولية والاعتماد على القوى الإقليمية للقيام بدور الوساطة، كالاعتماد على مصر وقطر فى مفاوضات غزة، والاعتماد على السعودية فى رعاية مفاوضات وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، ودور الإمارات فى اتفاقات الإفراج عن المحتجزين بين موسكو وكييف أيضًا.. والمحور الثالث والأخير هو احتواء التهديدات الأمنية عبر الجمع بين التحذير باستخدام القوة العسكرية والإبقاء على خيار التصعيد عند الضرورة كما يفعل مع إيران فتسعى إدارة ترامب إلى إبراز قوتها وتأكيد ردعها؛ ضد إيران وضد وكلائها مع تجنب التدخل الأمريكى واسع النطاق.

توسط ترامب فى اتفاق 19 يناير لوقف إطلاق النار فى غزة ثم خسره حينما لم يكمل نتنياهو مرحلته الثانية بمباركة أمريكية، وفاقم استئناف الحرب وتعليق المساعدات الإنسانية والحصار المفروض على قطاع غزة المخاطر القائمة، فى وقت تبنت فيه الإدارة الأمريكية رؤى صدامية فيما يخص خطة تهجير أهالى غزة التى قوبلت برفض عربى ولم يتوقف دعمه غير المشروط لرئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو وسياسة إسرائيل تجاه غزة، والضفة الغربية، ربما فقط بدا مؤخرًا أنه قد يتخلى عن نتنياهو إذا رأى فيه عقبة أمام خططه وطموحاته بالمنطقة.

كانت 100 من الغموض الاستراتيجى فى السياسات المفاجئة والصادمة، مرت بوتيرة متسارعة أثّرت ليس على السياسة الأمريكية وحدها ولكن على العالم، ويبقى نتنياهو شخص خارج التنبؤات وحليف غير مضمون ماكينة تصريحات ضد المنطق لا تتوقف.