التكاملُ الاقتصاديُّ العربيُّ والمقاربةُ الاستراتيجيةُ في سياقِ التحولاتِ الجيوسياسيةِ العالميةِ

يشهدُ النظامُ الدوليُّ تحولاتٍ عميقةً تُعيدُ رسمَ معالمِ القوةِ والتأثيرِ، حيثُ لمْ تعدِ الهيمنةُ الاقتصاديةُ حكرًا على القوى التقليديةِ، بلْ باتتْ تُعادُ صياغتُها منْ خلالِ تحالفاتٍ إقليميةٍ جديدةٍ، وتكتلاتٍ اقتصاديةٍ ناشئةٍ تفرضُ نفسَها على المشهدِ العالميِّ. اليومَ، تقفُ الدولُ العربيةُ أمامَ خياراتٍ تاريخيةٍ؛ فإمَّا أنْ تبقى أسيرةَ الهياكلِ الاقتصاديةِ المجزأةِ التي أبقتْها على هامشِ الاقتصادِ العالميِّ، أوْ أنْ تسلكَ مسارًا تكامليًّا يُعيدُ تشكيلَ موقعِها ضمنَ الخارطةِ الدوليةِ، ويوفّرُ لها القدرةَ على توجيهِ مساراتِ التنميةِ وفقَ مصالحِها الاستراتيجيةِ، بعيدًا عنْ إملاءاتِ القوى الكبرى.
إنَّ الإمكاناتِ الاقتصاديةَ الهائلةَ التي تزخرُ بها المنطقةُ العربيةُ ليستْ مجردَ معطياتٍ كميةٍ، بلْ هيَ محدداتٌ جيوستراتيجيةٌ يمكنُ توظيفُها لخلقِ قوةٍ اقتصاديةٍ موحدةٍ، قادرةٍ على فرضِ معادلاتٍ جديدةٍ في الاقتصادِ العالميِّ. غيرَ أنَّ المسألةَ لا تقتصرُ على توافرِ المواردِ، بلْ تكمنُ في القدرةِ على بلورةِ رؤيةٍ اقتصاديةٍ تتجاوزُ المصالحَ القطريةَ الضيقةَ، وتعتمدُ نموذجًا مرنًا للتكاملِ، يستندُ إلى تحليلاتٍ اقتصاديةٍ حديثةٍ ونظرياتٍ سياسيةٍ تُراعي التحدياتِ البنيويةَ التي تعوقُ تحقيقَ الوحدةِ الاقتصاديةِ المنشودةِ.
التكاملُ الاقتصاديُّ العربيُّ في ميزانِ الجيوبوليتيكِ
منْ منظورِ مصطلحِ الجيوبوليتيكِ (الجغرافيا السياسيةِ)، يشكّلُ الوطنُ العربيُّ كتلةً ذاتَ موقعٍ استراتيجيٍّ بالغِ الأهميةِ، يربطُ بينَ مراكزِ الثقلِ الاقتصاديِّ في العالمِ. ومعَ ذلكَ، فإنَّ غيابَ بنيةٍ مؤسسيةٍ قويةٍ تُنظمُ العلاقةَ الاقتصاديةَ بينَ دولِهِ جعلَهُ ساحةً مفتوحةً للتدخلاتِ الخارجيةِ، حيثُ تتنافسُ القوى الكبرى على تأطيرِ اقتصاداتِ المنطقةِ ضمنَ منظوماتٍ تابعةٍ تخدمُ استراتيجياتِها طويلةَ الأمدِ. إنَّ تحقيقَ تكاملٍ اقتصاديٍّ عربيٍّ لا يعني فقطْ تعزيزَ معدلاتِ النموِّ أوْ تحسينَ المؤشراتِ التجاريةِ، بلْ يمثلُ إعادةَ صياغةٍ للهندسةِ الجيوبوليتيكيةِ للمنطقةِ، منْ خلالِ بناءِ كيانٍ اقتصاديٍّ قادرٍ على حمايةِ ثرواتِهِ، وإعادةِ توجيهِها لخدمةِ مصالحِهِ الذاتيةِ، بدلًا منْ استنزافِها لصالحِ الفاعلينَ الدوليينَ.
تاريخيًّا، شهدَ العالمُ تكتلاتٍ إقليميةً ناجحةً استطاعتْ أنْ تحولَ مساراتٍ اقتصاديةً متباينةً إلى منظوماتٍ متكاملةٍ، كما هوَ الحالُ في الاتحادِ الأوروبيِّ، الذي لمْ يكنْ وليدَ قراراتٍ فوقيةٍ، بلْ جاءَ كنتيجةٍ لتطورٍ مؤسسيٍّ قائمٍ على المصالحِ المشتركةِ. التجربةُ الأوروبيةُ تؤكدُ أنَّ التكاملَ ليسَ مجردَ مشروعٍ اقتصاديٍّ، بلْ هوَ عمليةٌ تاريخيةٌ تتطلبُ بنيةً مؤسسيةً قويةً، وإرادةً سياسيةً تُدركُ أنَّ المصالحَ القوميةَ لا تتعارضُ معَ المصالحِ الإقليميةِ، بلْ تتعززُ بها.
القوةُ الناعمةُ العربيةُ
لقدْ أرسى عالمُ السياسةِ الأمريكيُّ جوزيف ناي مفهومَ “القوةِ الناعمةِ” باعتبارِها أداةً تتيحُ للدولِ التأثيرَ منْ دونِ اللجوءِ إلى القوةِ الصلبةِ التي تعتمدُ على الوسائلِ العسكريةِ والاقتصاديةِ القسريةِ. في السياقِ العربيِّ، فإنَّ امتلاكَ مواردِ الطاقةِ، والأسواقِ الاستهلاكيةِ الواسعةِ، والموقعِ الجغرافيِّ الاستثنائيِّ، كلُّها عواملُ تضعُ الدولَ العربيةَ في موقعٍ يُمكِّنُها منْ توظيفِ اقتصادِها كأداةٍ للنفوذِ السياسيِّ، لا مجردَ وسيلةٍ للاندماجِ في السوقِ العالميةِ وفقَ قواعدَ غيرِ متكافئةٍ.
إنَّ تكاملَ الاقتصاداتِ العربيةِ لا ينبغي أنْ يُنظرَ إليهِ بوصفِهِ خيارًا اقتصاديًّا محضًا، بلْ هوَ ضرورةٌ استراتيجيةٌ تُعيدُ ضبطَ ميزانِ القوى في المنطقةِ، وتُمكِّنُ الدولَ العربيةَ منَ التفاوضِ معَ القوى الكبرى على أسسٍ أكثرَ توازنًا. فالنفطُ والغازُ العربيُّ، على سبيلِ المثالِ، ليسا مجردَ مواردَ تُباعُ وتُشترى وفقَ أسعارِ السوقِ، بلْ يمثلانِ أدواتٍ جيوسياسيةً يمكنُ استخدامُها لتحقيقِ استراتيجياتٍ طويلةِ المدى، كما تفعلُ القوى الكبرى حينما توظفُ مواردَها الاقتصاديةَ لخدمةِ أهدافِها السياسيةِ والأمنيةِ.
التحدياتُ البنيويةُ أمامَ التكاملِ العربيِّ
إنَّ الفجوةَ بينَ الإمكاناتِ والواقعِ تعودُ إلى عقباتٍ بنيويةٍ لا يمكنُ تجاوزُها دونَ مراجعةٍ عميقةٍ للنظمِ الاقتصاديةِ القائمةِ. أبرزُ هذهِ العقباتِ هوَ ضعفُ المؤسساتِ الإقليميةِ القادرةِ على صياغةِ سياساتٍ اقتصاديةٍ منسجمةٍ، إذْ لا تزالُ القراراتُ الاقتصاديةُ تُتخذُ وفقَ منطقٍ سياديٍّ ضيقٍ، يحولُ دونَ تحقيقِ الاندماجِ المطلوبِ. كما أنَّ تباينَ الأنظمةِ الاقتصاديةِ بينَ الدولِ العربيةِ، واعتمادَ بعضِها على الاقتصاداتِ الريعيةِ، يجعلُ منْ تحقيقِ تكاملٍ حقيقيٍّ تحديًا يستوجبُ إصلاحاتٍ هيكليةً، تضمنُ تنوعَ مصادرِ الدخلِ، وتوفرُ بيئةً استثماريةً أكثرَ استقرارًا.
إضافةً إلى ذلكَ، فإنَّ التدخلاتِ الخارجيةَ لعبتْ دورًا رئيسيًّا في إعاقةِ أيِّ مشاريعَ تكامليةٍ، حيثُ سعتِ القوى الكبرى إلى تفتيتِ الأسواقِ العربيةِ عبرَ فرضِ اتفاقياتٍ تجاريةٍ غيرِ متكافئةٍ، وإذكاءِ النزاعاتِ الداخليةِ التي تعوقُ أيَّ مساعٍ للوحدةِ الاقتصاديةِ. وفي ظلِّ هذهِ الديناميكياتِ، فإنَّ تجاوزَ هذهِ العقباتِ يتطلبُ تبنيَ سياساتٍ اقتصاديةٍ قائمةٍ على الاستقلاليةِ الاستراتيجيةِ، بما يتيحُ للدولِ العربيةِ حمايةَ قراراتِها الاقتصاديةِ منَ التأثيراتِ الخارجيةِ المُعرقلةِ.
نحو استراتيجيةٍ عربيةٍ جديدةٍ
إنَّ تحقيقَ تكاملٍ اقتصاديٍّ عربيٍّ حقيقيٍّ لا يعني بالضرورةِ الانتقالَ الفوريَّ إلى نموذجِ الاتحادِ الاقتصاديِّ، بلْ يمكنُ أنْ يبدأَ عبرَ تكاملٍ مرحليٍّ، يعتمدُ على تحالفاتٍ بينَ دولٍ تتقاربُ في سياساتِها الاقتصاديةِ، معَ وضعِ إطارٍ مؤسسيٍّ يضمنُ التوسعَ التدريجيَّ ليشملَ جميعَ الدولِ العربيةِ لاحقًا. مثلُ هذا النهجِ سيمكنُ الدولَ منْ اختبارِ الآلياتِ التكامليةِ على نطاقٍ أصغرَ، قبلَ تعميمِها على نطاقٍ أوسعَ.
إضافةً إلى ذلكَ، فإنَّ تبنيَ نموذجٍ اقتصاديٍّ يعتمدُ على الابتكارِ والتكنولوجيا، وليسَ فقطْ على تصديرِ المواردِ الخامِ، يعدُّ عاملًا أساسيًّا لضمانِ نجاحِ التكاملِ. فالعالمُ يشهدُ تحولاتٍ هيكليةً في طبيعةِ الاقتصادِ، حيثُ لمْ تعدِ الثرواتُ الطبيعيةُ كافيةً لخلقِ اقتصاداتٍ تنافسيةٍ، بلْ أصبحَ الاستثمارُ في التكنولوجيا، واقتصادُ المعرفةِ، والصناعاتُ المتقدمةُ، هوَ المحركَ الأساسيَّ للقوةِ الاقتصاديةِ.
إعادةُ تعريفِ المستقبلِ العربيِّ
في عالمٍ يتجهُ نحو تكتلاتٍ اقتصاديةٍ كبرى، لمْ يعدْ أمامَ الدولِ العربيةِ ترفُ البقاءِ في حالةٍ منَ التجزئةِ الاقتصاديةِ، إذْ أنَّ عدمَ التحركِ نحو التكاملِ يعني استمرارَ التبعيةِ الاقتصاديةِ، وخسارةَ الفرصِ المتاحةِ في النظامِ العالميِّ الجديدِ. المطلوبُ ليسَ فقطْ إعادةَ هيكلةِ العلاقاتِ الاقتصاديةِ بينَ الدولِ العربيةِ، بلْ إعادةُ تعريفِ مفهومِ السيادةِ الاقتصاديةِ، بحيثُ لا يُنظرُ إليهِ كعائقٍ أمامَ التعاونِ، بلْ كمحفزٍ لإنشاءِ منظومةٍ إقليميةٍ قادرةٍ على تحقيقِ التوازنِ بينَ المصالحِ القوميةِ والمصالحِ الجماعيةِ.
لقدْ أثبتتِ التجاربُ التاريخيةُ أنَّ الأممَ التي لا تمتلكُ مشروعًا اقتصاديًّا واضحًا تظلُّ رهينةً لإملاءاتِ الآخرينَ. ومنْ هنا، فإنَّ التحديَ أمامَ الدولِ العربيةِ لا يكمنُ فقطْ في التغلبِ على العقباتِ الحاليةِ، بلْ في قدرتِها على ابتكارِ نموذجٍ اقتصاديٍّ جديدٍ، يتجاوزُ الأنماطَ التقليديةَ، ويضعُها على مسارِ الاستقلاليةِ الاقتصاديةِ الحقيقيةِ. إنْ لمْ يتحققْ ذلكَ، فإنَّ المستقبلَ العربيَّ سيظلُّ مرهونًا بمعادلاتِ قوى لا مكانَ فيها للضعفاءِ.