الفسادُ الأخلاقيُّ

لا داعي لإشعالِ الفتنِ،،3،،
نقفُ اليومَ أمامَ قضيةِ فسادٍ أخلاقيٍّ جديدٍ لا يختلفُ عنِ الفسادِ الأخلاقيِّ الذي تحدثنا عنهُ في السابقِ بلْ هوَ جزءٌ منهُ أكثرُ سوءًا. في بدايةِ نشرِ واقعةِ الطفلِ ياسينَ الذي تعرضَ للاغتصابِ منْ قبلِ موظفٍ داخلَ مدرسةِ الكرمةِ بدمنهورَ، على مدارِ عامٍ، عبرَ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ، تصورتُ أنَّ هذا المنشورَ مُفبركٌ مثلَ المنشوراتِ التي تتمُّ منْ أجلِ جمعِ أكبرِ عددٍ منَ التفاعلاتِ عليها، وفوجئتُ عقبَ ذلكَ بأنَّ الواقعةَ حقيقيةٌ. الطفلُ ياسينُ لمْ يكنْ مجردَ رقمٍ جديدٍ في سجلِّ ضحايا العنفِ أو الإهمالِ، بلْ هوَ رمزٌ لطفولةٍ تعرضتْ للخيانةِ منْ قبلِ أولئكَ الذينَ يفترضُ أنْ يحموا براءتَها.
الفكرةُ أنني لمْ أستوعبْ أنَّ مسنًّا يرتكبُ مثلَ هذهِ الجريمةِ الشنعاءِ، والأدهشُ أنْ تقومَ “الدادةُ” بمساعدةِ المجرمِ، كما كشفتِ التحقيقاتُ أنها كانتْ على علمٍ بالتجاوزاتِ الخطيرةِ داخلَ المؤسسةِ، وأنها هيَ التي كانتْ تقدمُ الطفلَ كوجبةٍ لوحشِ الغابةِ، إمَّا خوفًا أو تواطؤًا، وكلا الأمرينِ لا يُعفيها منَ العقوبةِ.
والمفاجأةُ الأكبرُ أنَّ مديرةَ المدرسةِ صاحبةَ السلطةِ والقرارِ، تحاولُ طمسَ الحقيقةِ وترتكبُ جرمًا لا يقلُّ شيئًا عنِ المتهمِ بلْ منْ وجهةِ نظري أنها والدادةُ أكثرُ جرمًا. كيفَ لهذهِ المديرةِ أنْ تكونَ على علمٍ بواقعةِ اغتصابِ الطفلِ، وتستدعي الموظفَ وتضربَهُ بالعصا أمامَ الطفلِ، ثمَّ تهددُ الطفلَ بقتلِ والديهِ لوْ تحدثَ عنِ الواقعةِ أمامَ أسرتِهِ. فهلْ وصلَ بنا الحالُ إلى هذهِ الدرجةِ؟! .
جاءَ حكمُ المحكمةِ بالمؤبدِ ضدَّ المتهمِ وأثلجَ صدورَنا جميعًا ولكنَّ السؤالَ أينَ الدادةُ والمديرةُ في هذهِ القضيةِ؟ لمْ نعرفْ عنهما سوى إقالةِ المديرةِ. والغريبُ أنَّ هناكَ محاولاتٍ قائمةً حاليًا لغلقِ القضيةِ تمامًا منْ خلالِ شائعاتٍ عديدةٍ إمَّا بوفاةِ المديرةِ أو هروبِها خارجَ البلادِ إلى أمريكا، وأنَّ المتهمَ تعرضَ لأزمةٍ قلبيةٍ، وشائعاتٍ أخرى أنَّ الحكمَ صدرَ منْ أجلِ تهدئةِ الرأيِ العامِّ فقطْ وفي الاستئنافِ يصدرُ حكمٌ آخرُ، ومحاولاتٍ لإدخالِ القضيةِ في إطارِ الفتنةِ الطائفيةِ، تكهناتٌ ومهاتراتٌ عديدةٌ ملأتْ صفحاتِ التواصلِ الاجتماعيِّ والغرضُ منها مفهومٌ ومعروفٌ.
إنَّ ما نراهُ منْ محاولاتٍ لإدخالِ القضيةِ في دوائرِ الجدلِ الدينيِّ أو الطائفيِّ هوَ لعبٌ بالنارِ. الجريمةُ التي نناقشُها لا تعرفُ دينًا ولا طائفةً، بلْ تمثلُ تعديًا واضحًا على طفلٍ بريءٍ، وهوَ ما يتطلبُ تحقيقًا شفافًا، ومحاسبةً صارمةً، لا تمييزَ فيها ولا اعتباراتٍ جانبيةً. القضيةُ ليستْ في ديانةِ المتهمِ أو المجنيِّ عليهِ. القضيةُ في اغتصابِ البراءةِ، والترويجُ لخطاباتِ الفتنةِ أو تحويلُ الجدلِ نحو قضايا فرعيةٍ ليسَ سوى تشويشٍ على العدالةِ، ومحاولةٌ للتهربِ منْ مواجهةِ الحقيقةِ.
نحنُ اليومَ لا نقفُ فقطْ أمامَ جريمةٍ فرديةٍ، بلْ أمامَ اختبارٍ حقيقيٍّ. وهناك مصداقيةٌ للنظامِ القضائيِّ، وقدرتُهُ على التعاملِ معَ قضايا تمسُّ أكثرَ الفئاتِ ضعفًا في المجتمعِ وهمُ الأطفالُ. إنَّ العدالةَ هنا ليستْ خيارًا، بلْ واجبٌ وطنيٌّ وأخلاقيٌّ. يجبُ أنْ يشعرَ كلُّ وليِّ أمرٍ أنَّ أبناءَهُ في أمانٍ حينَ يذهبونَ إلى المدرسةِ، أو المستشفى، أو دارِ الرعايةِ. وإذا تزعزعتْ هذهِ الثقةُ، فإنَّ الفتنةَ الحقيقيةَ هيَ فقدانُ الناسِ للإيمانِ بعدالةِ المؤسساتِ.