ترامب و100 يوم مِنَ العُزْلَة

بدأ 2025 مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير، عهد سياسي جديد ومُثير للجدل في الولايات المُتحدة. إن رجل الأعمال والملياردير الشهير الذي جاء من خارج المؤسسة السياسية الأميركية، تبني شعار “أميركا أولاً”، لكنه سرعان ما وضع بلاده في مواجهات وصدامات سياسية ودبلوماسية واقتصادية مُحتدمة خلال أول 100 يوم من رئاسته.
الانسحاب من الاتفاقيات الدولية
في الأيام الأولي من حكمه، وقّع ترامب قراراً تنفيذياً يقضي بانسحاب الولايات المُتحدة من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ الذي دعي إلى تعزيز التجارة الحُرة بين 12 دولة. هذا الانسحاب أرسل إشارة قوية إلى الحُلفاء والشركاء بأن واشنطن لم تعد مُهتمة بقيادة النظام التجاري العالمي. كما أعلن لاحقاً نيته للانسحاب من اتفاقية باريس للمُنَاخ، مما أثار حفيظة المُجتمع الدولي. قرارات ترامب في هذا السياق أكدت توجهه نحو سياسات انعزالية تبتعد عن التحالفات التقليدية وتضرب بمبادئ وأعراف التعاون الدولي عرض الحائط.
الهجوم على الإعلام والمؤسسات
أحد ملامح العُزْلَة التي رسخها ترامب كان صراعه المُستمر مع وسائل الإعلام. فمنذ الأيام الأولى، وصف الصحفيين بأنهم “أعداء الشعب”، واتهم مؤسسات صحفية وإعلامية كُبرى كصحيفة “نيويورك تايمز” ووكالة “سي إن. إن” بنشر وإذاعة “أخبار كاذبة ومُضللة”. هذا الخطاب العدائي زاد من حالة الاحتقان الداخلي، وهدد الثقة العامة في الإعلام، وساهم في تعميق الانقسام داخل المجتمع الأميركي. كذلك، بدأ ترامب صراع غير مُعلن مع العديد من مؤسسات الدولة، خاصة الاستخبارات والقضاء، حيث اتهم أجهزة الأمن بتسريبات مُتعمدة، وشكك في نزاهة المحاكم عندما أوقفت بعض قراراته التنفيذية.
الحرب التجارية
استخدم ترامب ورقة رفع الرسوم الجُمركية كأداة عقابية في سياسته الاقتصادية، خاصة خلال حربه التجارية مع الصين. الهدف الرئيسي من ذلك كان تقليص العجز التجاري، حماية الصناعات المحلية، وإعادة التفاوض على اتفاقيات اعتبرها غير عادلة. لم تقتصر هذه الرسوم الجُمركية على الصين فقط، بل شملت الحُلفاء وعدد من أهم الشركاء؛ ككندا والمكسيك وحتى دول الاتحاد الأوروبي واليابان. أدت هذه السياسات إلى توترات تجارية عالمية: كارتفاع تكاليف الإنتاج، ونقص في سلاسل التوريد، وتقليص العمالة. بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، وتغيير في النمط الاستهلاكي، وانخفاض حجم الطلب على السلع.
تراجع الدور الأميركي العالمي
وعلى صعيد الساحة الدولية، لم تكن علاقة ترامب مع الحُلفاء مُستقرة. فقد هاجم حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وانتقد دولاً كألمانيا وكندا بسبب ما اعتبره “استغلالاً” للولايات المتحدة في الاتفاقيات التجارية والدفاعية والأمنية. في المقابل، أبدى ترامب تقارباً غريباً مع أنظمة سياسية ديكتاتورية، وعلى رأسها روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، مما أثار قلق ومخاوف المؤسسات الأمنية الأميركية. هذا التوجه عزز الانطباع بأن الولايات المتحدة في عهد ترامب لم تَعُد “سيدة العالم الحُر”، بل صارت دولة تسير في طريق عُزلة استراتيجية، حيث باتت تتراجع تدريجيًا عن التزاماتها وتختار الصدام والمواجهة بدلاً من التعاون والشراكة. وضع ترامب أُسساً لمرحلة جديدة من السياسة الأميركية، ترتكز على الشعبوية، والقومية الاقتصادية، والعداء لمؤسسات الدولة التقليدية.
لم تكن أول 100 يوم من حكم ترامب مجرد بداية مُضطربة لرئيس غير تقليدي، بل كانت تعبيراً عن تَحَوُّل عميق في الرؤية الأميركية للعالم. العُزْلَة التي اختارها لم تكن مجرد نتيجة لقراراته، بل كانت جزءاً من استراتيجيته في الحكم: إعادة تعريف مكانة أميركا، حتى لو كان الثمن خسارة الحُلفاء، وتقويض التحالفات، وتمزيق الداخل.