عودة زرياب

عودة زرياب

فى تاريخ الأندلس، قلة هم الذين يرن صدى أسمائهم بنغمة مميزة كأبى الحسن على ابن نافع، المعروف بزریاب (ت. 857م).

واليوم أعيد إحياء إرث زرياب فى مشروع موسيقى جرىء بعنوان «زرياب ونحن: رؤية جديدة للتراث العربي-الأندلسى». جمع هذا المشروع فنانين من فرنسا، والمغرب، وإسبانيا تحت سقف نغمى واحد. وبدعم من شبكة «مدينا» الممولة من الاتحاد الأوروبى، تحول هذا اللقاء الفنى إلى حياة نابضة، لا من خلال المخطوطات الصامتة، بل عبر الأصوات الحية.

يقول عنه الإثنوموسيقي جوناثان شانون: «زرياب ليس مجرد إنسان — بل هو استعارة يتعرف الناس من خلالها على جذورهم الثقافية وتراثهم». بالفعل، بالنسبة لهؤلاء الموسيقيين، كان زرياب ملهمًا ففى خلال إقامتهم فى كلية بيركلى للموسيقى فى فالنسيا، قدموا موسيقاهم التى احتفظوا فيها ببصمات الجاز، والفلامنكو، والمقامات الشرقية، والموسيقى الكلاسيكية الأوروبية.

مثل مايسترو يقود الأوركسترا، قادتهم أسطورة زرياب فى رحلتهم الإبداعية — رحلة تفاوضوا فيها على الأسلوب، والإيقاع، وقدسية التقاليد، فواجهوا ما أسماه شانون «عمليات التفاعل» فى التعاون بين الثقافات. نشأت توترات — فنية، وسياسية، وشخصية — كالأوتار المشدودة فى نغمة فلامنكو حزينة. ومع ذلك، ومن هذه الاحتكاكات، ولدت روابط جديدة، كما لو أن عود زرياب لا يزال يعزَف بأصابعهم.

ومن بين المشاركين، كانت المغربية عبير العابد، التى رن صوتها بأصداء قصور الأندلس المنسية؛ وعازف الناى الإسبانى سيرخيو دى لوبى، الذى جسد روح «الدوِندا» الأندلسية. وقد توِجت عروضهم بحفل فى كاسا آرابه بمدريد، حول الأسطورة إلى حوار حي.

وصفت فيرجينيا بيسانو، العقل المدبر للمشروع، التجربة بأنها «بوتقة فنية — تختبر حدود التقاليد والهوية». ومثل زرياب نفسه، الذى غير عادات البلاط بتقديمه أزياء موسمية وآداب مائدة راقية إلى قرطبة، جلب الفنانون ابتكارات تجاوزت الموسيقى.

وفى هذا الزمن المتشظى، حيث تنكمش الجغرافيا وتتسع الفجوات، وحيث ترفع الأسلاك الشائكة بدل الجسور، وتختزل الهويات فى شعارات صاخبة، يأتينا زرياب كنغمة هاربة من عودٍ قديم، تذكرنا بأن فى لحظةٍ ما من التاريخ، كانت الثقافات تتحاور بلغة الطرب لا الطعن، وبالأوتار لا الأسوار، وبالناى لا بالنار.

لقد كان زرياب، فى زمانه، صدى حضارةٍ آمنت بأن الجمال شكلٌ من متع العيش، وأن الموسيقى ليست لهوًا، بل وسيلة للارتقاء والتقارب. فلعله يكون الآن المقام الضائع الذى علينا أن نستعيده لنصوغ به أنشودةً جديدةً، نغنيها بصوت واحد على اختلاف طبقاتها وإيقاعاتها.