«ميراث المرأة» بين التريند وأحكام الشرع

دعوات المساواة بين الجنسين فى الميراث جريمة تهدد الأمن المجتمعى
الأزهر: «تشويه للشريعة وإعادة إنتاج للفكر التكفيرى».. وتساؤلات حول حدود التجديد
قانونى: لا يجوز حرمان الورثة إلا فى حالة القتل.. ومحامية تطالب بتوثيق الممتلكات للبنات
«فاطمة»: خديعة أشقائى حرمتنى من ميراثى.. و«سعاد»: نصيب بناتى أقل من أعمامهن
يثير النقاش حول قضايا المساواة فى الميراث بين الرجل والمرأة جدلًا متجددًا فى الأوساط الدينية والقانونية، خاصة حينما يأتى على لسان بعض العلماء الذين ينتمون إلى مؤسسات دينية عريقة، ما يضع المجتمع أمام معادلة دقيقة بين ثوابت الشريعة ومتغيرات الواقع. وفى الوقت الذى تطرح فيه بعض الأصوات اجتهادات تدعو إلى إعادة النظر فى بعض أحكام المواريث، يتمسك الأزهر الشريف بموقفه الحازم تجاه ما يعتبره نصوصًا قطعية لا تقبل التأويل أو التعديل، محذرًا من مغبة العبث بها تحت دعاوى التجديد أو حقوق الإنسان.
ويعيد هذا السجال تسليط الضوء على الخط الرفيع الفاصل بين الاجتهاد المشروع والتأويل الذى قد يُحدث اضطرابًا فى المرجعيات الدينية والقانونية، ويطرح تساؤلات حول حدود التجديد فى الدين، ومن يملك أدواته وشرعيته.
حكايات من دفتر العائلات
وبفعل ضغوط عائلية أو عرفية نرى كثيرًا من النساء يُحرمْن من الميراث عمليًّا, أو يحصلن على أقل من حقوقهن المشروعة, رغم كونهن الأكثر حاجة وتحملًا للمسئولية, وهو ما يمثل التفافًا على الشرع أيضًا, والواقع ملىء بآلاف الحالات التى أجحفت العائلات بحقوقهن الشرعية فى الميراث.
فاطمة, الابنة الكبرى لرجل كان يُعرف بالعدل والكرم, عاشت طفولتها فى منزل العائلة الكبير فى القرية بعد وفاة والدها, كان من المفترض أن تُقسّم التركة بين الأبناء والبنات وفقًا للشرع, لكن الواقع كان مختلفًا. أخوها الأكبر, الذى تولّى الأمور بحكم العرف السائد, أخبرها بأن «البنات ما لهمش فى الأرض», وأعطاها مبلغًا صغيرًا مقابل توقيعها على ورقة لم تفهمها جيدًا.
مرت السنوات, واكتشفت فاطمة لاحقًا أن تلك الورقة كانت توكيلًا عامًّا استخدمه شقيقها لبيع نصيبها فى الأراضى الزراعية والبيت القديم, من دون علمها. حاولت أن تطالب بحقها, لكنها قوبلت بالرفض والتهديد, فلجأت إلى محامٍ, فاكتشف أن كل الممتلكات نُقلت باسم الأخ بشكل قانونى ظاهريًّا, لكنها بنيت على خداع, ورغم تقديمها بلاغًا, ظلت القضية تدور فى أروقة المحاكم, وما زالت فاطمة تناضل حتى اليوم.
خديعة الأشقاء
سعاد, أرملة وأم لطفلين, كانت تعيش فى القاهرة بعيدًا عن أهلها فى الصعيد. بعد وفاة والدتها, كان من المفترض أن ترث مع إخوتها قطعة أرض ومحال تجارية تركها والدهم. اتصل بها أحد أشقائها ليخبرها بأن الأمور «شكلية», ويحتاج توقيعها فقط لإنهاء إجراءات الميراث. أرسلوا لها أوراقًا بالبريد, وقالوا لها إنها «مجرد توكيلات بنكية».
بثقة فى إخوتها, وقّعت سعاد دون أن تستشير محاميًا, وبعد عدة أشهرعلمت أن الميراث تم توزيعه بالكامل, وكل شيء أصبح باسم إخوتها الذكور. حاولت التواصل معهم, لكنهم تجاهلوها, حتى إن بعضهم حظرها على الهاتف.

عندما قررت اتخاذ خطوات قانونية, اكتشفت أنها تنازلت رسميًّا عن كل شيء, وأن ما وقّعت عليه لم يكن مجرد توكيلات, بل تنازل صريح عن نصيبها فى الميراث. لم يكن أمامها سوى اللجوء إلى المحكمة, لكن المعركة كانت طويلة ومكلفة, ولا تملك من المال ما يكفى.
الحال لا يختلف كثيرًا مع سعاد عبدالحليم, أرملة خمسينية وأم لثلاث بنات, تقول: «بعد وفاة زوجى, فوجئت بأن نصيب بناتى الثلاث فى الميراث أقل من نصيب أعمامهن, رغم أنهن الأقرب إليه فى الرعاية والمساندة. شعرت بالظلم, ولكننى خفت الاعتراض على شيء فى الدين».
وتضيف: «لست فقيهة, ولكننى كأم أرى أن البنات يجب أن يُنصفن فى هذا الزمن الذى تغيرت فيه الأدوار والظروف».
أما شيماء مصطفى, خريجة كلية الحقوق, فتؤكد أن المشكلة ليست فى النصوص وإنما فى طريقة تطبيقها: «هناك حالات كثيرة يكون فيها الرجل هو المستفيد من الإرث دون أن يضطلع بأى مسئولية تجاه الأسرة, بينما تُترك المرأة التى قامت بدور الأب والأم دون حماية قانونية كافية».
معركة الأزهر والمشايخ
قضية الميراث أثيرت فى الآونة الأخيرة بعد أن خرج أحد علماء الأزهر متحدثا عنها فى أحد البرامج التليفزيونية مطالبًا بمساواة الرجال والنساء فى الميراث, إلا أن الأزهر الشريف أصدر بيانًا حاد اللهجة, أكد فيه أن نصوص المواريث فى القرآن الكريم قطعية الدلالة لا تقبل الاجتهاد أو التعديل, مشددًا على أنَّ الدعوات التى تطالب بتشكل افتئاتًا على أحكام الشريعة وولاية الأمر, بل تعيد إنتاج الفكر التكفيرى فى صورة معاصرة.
وأوضح مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية فى بيانه, أن ما وصفه بالممنهج تجاه الدين وتشريعاته», والربط المغلوط بين الإشكالات المجتمعية وأحكام الشريعة, يمثل خطرًا بالغًا ينذر بتغذية الانحراف الفكرى والسلوكى, معتبرًا أن صدمة الرأى العام باستدلالات خاطئة لتبرير تحريم الحلال أو تحليل الحرام هى «جريمة فكرية تهدد الأمن المجتمعي».
وجاء البيان ردًّا مباشرًا على تصريحات الدكتور سعد الدين الهلالى, أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر, خلال حوار تليفزيونى على قناة «العربية», والتى قال فيها إن «المطالبة بالمساواة فى الميراث ليست ممنوعة بنص صريح من القرآن أو السنة, والقرار فى نهاية المطاف يعود إلى الشعب», ما اعتبره المركز تدليسًا وانتقاءً مخلًّا بالنصوص الشرعية.
وذهب بيان الأزهر إلى وصف تفسير «أولى الأمر» فى القرآن بانحراف تأويلى وشذوذ فى الفهم, يفتح الباب أمام التجرؤ على أحكام الدين, وإعادة إنتاج الخطاب المتطرف الذى سبق أن استخدمه التكفيريون لتكفير المجتمع وهدم مؤسساته.
وأكد الأزهر, أن لا صراع بين الفقه الإسلامى والدستور المصرى, بل إن التشريعات الوضعية مستمدة فى معظمها من أحكام الشريعة, كما أن المادة الثانية من الدستور تؤكد بوضوح أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع», معتبرًا أن تصوير الدين كمعوّق لتقدم المجتمع أو حقوق المرأة, «حيلة مغرضة تُستغل لتمرير أجندات فكرية دخيلة ومغتربة عن الهوية العربية والإسلامية».
واختتم المركز بيانه بالتشديد على أن تجديد الخطاب الدينى لا يتم عبر الشاشات أو على أيدى غير المتخصصين, بل هو حرفة علمية دقيقة, لا يتقنها إلا الراسخون فى العلم, محذرًا من اتجاهين متطرفين فى التعامل مع النصوص: أحدهما يرفض التجديد مطلقًا, والآخر يبدد الشريعة باسم التحديث.

الميراث فى الإسلام
أكد الدكتور محمد السيد العزازى, الباحث فى علم المواريث, أن نظام الإرث فى الشريعة الإسلامية يقوم على قواعد راسخة تستند إلى نصوص قطعية فى القرآن الكريم والسنة النبوية, وهو ما يجعله من الأحكام الثابتة التى لا تقبل الاجتهاد, وقد أجمعت الأمة على هذه القواعد منذ العصور الأولى.
وأشار «العزازي» إلى أن أبرز هذه الثوابت يتجلى فى تحديد أنصبة الورثة كما ورد فى سورة النساء, حيث حددت الشريعة نصيب كل وارث بدقة, وذلك وفق ترتيب إلهى عادل, كما شدد على وجوب ترتيب أولويات التوزيع, بدءًا من سداد الديون المستحقة على المتوفى, ثم تنفيذ الوصايا فى حدود الثلث, وأخيرًا تقسيم ما تبقى من التركة بين الورثة الشرعيين.
وأوضح أن ثمة موانع شرعية تمنع الشخص من الميراث, أبرزها القتل العمد واختلاف الدين, التزامًا بأحكام الشريعة التى وضعت هذه الضوابط لصيانة العدالة وتحقيق التوازن الاجتماعى.
وفى معرض رده على الجدل المثار حول المساواة فى الميراث بين الذكر والأنثى, شدد «العزازي» على أن أحكام المواريث لا تخضع للتعديل أو الاجتهاد, مستشهدًا بقوله تعالى: «يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين», معتبرًا أن هذا لا يمثل ظلمًا, بل هو جزء من منظومة تشريعية أشمل تراعى التكاليف الشرعية والمالية التى تقع على عاتق الرجل, خاصة فى النفقة والمسئوليات الأسرية, بينما لا تُلزم المرأة بذلك.
وأضاف أن باب الاجتهاد فى قضايا المواريث يظل مفتوحًا فقط فيما يتعلق بالقضايا المستجدة أو الإجراءات التنظيمية والإدارية, مثل توثيق التركات, وتقسيمها عبر البنوك, إلى جانب «الوصية الواجبة» المعمول بها فى بعض القوانين الوضعية, والتى لا تخلو من جدل فقهى حول مشروعيتها.
وحذر «العزازي» من خطورة التنازل عن الميراث تحت ضغوط اجتماعية أو أسرية, معتبرًا أن أى تنازل يتم دون إرادة حرة يُعد إكراهًا شرعيًّا يُبطل الرضا, وبالتالى لا يُعتد به. كما نبّه إلى أن العقود الصورية والتنازلات الشكلية لا قيمة لها فى ميزان الشريعة, وتُعد نوعًا من التدليس المحرم, مؤكدًا أن من يُجبر امرأة على التنازل عن ميراثها يتحمل وزرًا عظيمًا أمام الله, ولن تعفيه أى مستندات قانونية من المسئولية الشرعية.
واختتم «العزازي» حديثه بالتأكيد على أن الشريعة الإسلامية وضعت نظامًا فريدًا ودقيقًا للميراث, قائمًا على العدالة والمساواة الحقيقية, مانعة كل صور العبث أو التلاعب. وقال: «من يحرم وارثًا من حقه أو يتلاعب فى الأنصبة الشرعية, فقد تعدى حدود الله, وارتكب معصية كبرى لا تُمحى إلا برد الحقوق إلى أصحابها والرجوع إلى الحق».

حيل قانونية
من ناحية أخرى كشف المستشار القانونى, أيمن محفوظ, أن البعض يلجأ لحيل قانونية للالتفاف حول النصوص الدينية فيما يخص المواريث, وأشار إلى أن ظاهرة حرمان النساء من الميراث تعكس بوضوح استمرار سيطرة عادات المجتمع الجاهلى, حيث تسود أنماط فكرية متجذرة فى القسوة والطمع, وتتجلى فى ممارسات إجرامية تستخف بحكم الشريعة وتعتدى على الحقوق التى أقرها الله.
وأكد «محفوظ», أن الحق فى الإرث مستند إلى النسب لا إلى البر أو العقوق, ولا يُمنع منه أحد إلا فى حالة واحدة وهى القتل, إذ «القاتل لا يرث». أما ما دون ذلك من مبررات يختلقها البعض لحرمان النساء, فباطلة شرعًا وقانونًا.
ويرى محفوظ أن أساليب التحايل على حق المرأة فى الميراث باتت متنوعة وخطيرة, تتراوح بين إجبارها على التوقيع على عقود تنازل, أو إبرام عقود صورية يتصرف فيها المورث بأملاكه فى حياته, لإقصاء بعض الورثة, وغالبًا ما تكون الضحية أنثى.
ويشير إلى أن المادة 917 من القانون المدنى تعتبر هذه التصرفات باطلة إذا احتفظ المتصرف (المورث) بحيازة المال المتصرف فيه أو عوائده, ما يشير إلى صورية العقد. ويجوز هنا إثبات الصورية بكافة وسائل الإثبات القانونية.
أما بعد وفاة المورث, فإن قانون المواريث رقم 219 لسنة 2017 المعدل للقانون 77 لسنة 1943, ينص فى مادته 49 على معاقبة من يمتنع عن تسليم الورثة نصيبهم الشرعى, بالسجن مدة لا تقل عن 6 أشهر, وغرامة من 20 إلى 100 ألف جنيه, أو بإحدى العقوبتين. كما يتيح القانون للوريث المحروم مقاضاة من حرمه, والمطالبة بحبسه لحين استعادة الحق.
ضغوط وعنف ضد النساء
رغم هذا الإطار التشريعى, يؤكد محفوظ أن المرأة ما زالت غير متمتعة بالحماية الكافية, بسبب ما وصفه بمع الأسرة», فضلًا عن تعرضها فى كثير من الحالات للتهديد أو العنف حال مطالبتها بحقها.
وأشار إلى أن المؤسسات الرسمية والمجتمعية تبذل جهدًا ملحوظًا لحماية النساء, لكننا لا نزال بحاجة إلى تشريعات أكثر صرامة, ورقابة فعلية على توزيع التركات, ونشر واسع للوعى الدينى والقانونى لمواجهة هذا السلوك الذى يخالف الشريعة, والدستور, والأخلاق.
وحول المطالبات بالمساواة المطلقة فى الإرث بين الذكر والأنثى, قال محفوظ: «إن العدالة الإلهية أسمى من أى تصور بشرى للعدالة, ولا يجوز التشكيك فيها بحجة التطور أو المساواة».
وأضاف: «الدستور المصرى فى مادته الثانية ينص على أن الإسلام هو دين الدولة, ومبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع, ولا يمكن إصدار قانون يخالف ثوابت الشريعة, حتى لو كان يخص غير المسلمين, الذين تُطبق شريعتهم الخاصة طالما لا تخالف الشريعة الإسلامية».
الخنثى والعابرون جنسيًّا
وفى سياق آخر, أشار محفوظ إلى إشكاليات ميراث الخنثى والعابرين جنسيًّا, مؤكدًا أن الخنثى الذى يمتلك أعضاء تناسلية واضحة تُحدد جنسه يرث بناءً على جنسه الظاهر. أما المتحولون والعابرون جنسيًّا, فيُحتكم فى توزيع الميراث إلى الجنس القانونى الذى كانوا عليه وقت وفاة المورث, وليس الهوية الجنسية التى تبنوها لاحقًا.
اكتبوا ثرواتكم لبناتكم
على الجانب الآخر أطلقت المحامية الحقوقية نهاد أبو القمصان, رئيسة المركز المصرى لحقوق المرأة, دعوة للأسر لتوثيق ممتلكاتهم باسم بناتهم خلال حياتهم, لحمايتهن من الحرمان بعد الوفاة. وأوضحت أن ما يُعرف شعبيًّا بالتركة لا تُسمى كذلك إلا بعد الوفاة, أما فى الحياة فهى «ثروة», ولصاحبها حق التصرف فيها بالتوزيع أو التبرع.
واستشهدت «أبو القمصان» بإحصاءات رسمية تؤكد أن 95% من البنات لا يحصلن على ميراثهن, ووصفت من يستولون على ميراث النساء بغير وجه حق بأنهم «لصوص», مؤكدة أن كثيرًا من رجال الدين يغضون الطرف عن الآية 14 من سورة النساء, التى توعدت من يأكلون أموال الورثة بعذاب عظيم.
وحذّرت «أبو القمصان» من واقع اجتماعى مؤلم, حيث قد تجد الفتيات أنفسهن مهددات بالطرد من منازلهن أو مجبرات على التخلى عن جزء كبير من حقوقهن لإرضاء الأعمام أو الأخوال, وتساءلت: «هل من يرفضون توثيق الثروات للبنات هم من الفئة العادلة أم من ضمن الإلى أن بعض الدول الإسلامية مثل تونس والمغرب وإيران تسمح بتوزيع التركة أثناء حياة صاحبها عبر الوصية, معتبرة أن هذه الممارسات تضمن العدالة وتحمى البنات, مشددة على ضرورة التوثيق مع الاحتفاظ بحق الانتفاع لصاحب المال.