أيام وليالى المحروسة

أيام وليالى المحروسة

يظلُّ الفنُّ مرآةَ العصرِ وحاملَ القيمِ وناقلَ الوجدانِ ومصورَ الحياةِ وراسمَ المجتمعِ وعابرَ الزمانِ والمكانِ، وكلُّ عملٍ فنيٍّ وأدبيٍّ يعيشُ ويستمرُّ رغمَ التاريخِ والجغرافيا، تتناقلُهُ الأجيالُ وترددُهُ القلوبُ وتستنيرُ بهِ العقولُ، دليلٌ على قيمتِهِ الفنيةِ والإبداعيةِ التي تمزجُ العناصرَ الفنيةَ مع القيمةِ والرسالةِ التي تخاطبُ الإنسانيةَ دونَ النظرِ إلى لونٍ أو جنسٍ أو دينٍ. لهذا عاشتْ أعمالُ كبارِ الفنانينَ والأدباءِ على مرِّ السنينَ والعصورِ ولم تَبْلَ ولم تندثرْ أو تختفِ، بدايةً من معابدِ وتماثيلِ الفراعنةِ وقدماءِ المصريينَ إلى مسرحياتِ وأساطيرِ اليونانِ وعمارةِ الرومانِ ولوحاتِ عصرِ النهضةِ ونقوشِ «مايكل أنجلو» ورسومِ «دافنشي» ومسرحياتِ «شكسبير» و«موليير»، حتى معلقاتِ «امرئ القيسِ» وأشعارِ «المتنبي» وكتاباتِ «ابن طفيل» و«المعري» وعميدِ الأدبِ العربيِّ ومحفوظٍ صاحبِ نوبلٍ و«إدريس» و«إحسان» و«السباعي» و«الزيات» وموسيقى «بيتهوفن» و«موزارت» و«درويش» و«عبدالوهاب» و«فوزي» و«بليغ» وكلِّ المبدعينَ شرقًا وغربًا… وكذلك في أعمالِ أسامة «أنور عكاشة» رائدِ الدراما نجدُ «ليالي الحلمية» وهي تحكي وتروي عن ليالي وأيامِ المحروسةِ في عصرِها الحديثِ، خاصةً لحظاتِ التحولِ التاريخيِّ والسياسيِّ والاجتماعيِّ. ولأننا نعيشُ مرحلةً فارقةً ومتغيرةً من الزمنِ على مستوى العالمِ وعلى المستوى الإقليميِّ والمحليِّ، فإنَّ الدراما والفنَّ لم ينجحا في التعبيرِ عما نحياهُ، ولم يُصوِّرِ الفنُّ تلكَ التحولاتِ الجذريةَ في مجتمعِنا سواءً سياسيًّا أو اجتماعيًّا، وذلكَ لأسبابٍ متعددةٍ على رأسِها سطوةُ التكنولوجيا والتدخلاتُ التقنيةُ فيما يُكتبُ أو يتمُّ إبداعُهُ تحتَ مسمى الذكاءِ الاصطناعيِّ والتطبيقاتِ والبرمجياتِ والخوارزمياتِ، وكلُّها مُصطنعةٌ حولتِ البشرَ إلى نماذجَ مشوهةٍ شكلًا وموضوعًا، خلقتْ حالةً من السطحيةِ والتشويشِ على الإبداعِ البشريِّ.. فلم نعدْ نعرفُ الحقيقةَ من الكذبِ، وانتشرَ في وادينا العديدُ من الأمراضِ الاجتماعيةِ التي تهددُ السلمَ والأمنَ الاجتماعيَّ، فلم يعدِ المنزلُ آمنًا ولا المدرسةُ ولا دورُ العبادةِ، ما بالك بالشارعِ والفضاءِ الخارجيِّ.. في مسلسلِ «ليالي الحلمية» تحولتْ مصرُ من الملكيةِ إلى الناصريةِ والاشتراكيةِ والتأميمِ إلى نكسةٍ ثم عبورٍ ونصرٍ ثم انفتاحٍ وسلامٍ ومعاهدةٍ مع الكيانِ وتغيرٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ واجتماعيٍّ، وظهورِ طبقاتٍ واختفتْ أخرى، ودخلتِ المحروسةُ أفكارٌ وجنسياتٌ مختلفةٌ، وبدأتِ الهجرةُ إلى الخليجِ، وظهرتِ الجماعاتُ المتطرفةُ والإرهابُ وسطوةُ المالِ والسلطةِ مع تدخلِ الدينِ وطفراتِ التعصبِ وبداياتِ الانقسامِ العربيِّ وضربِ الكويتِ والعراقِ والتدخلِ الأمريكيِّ السافرِ في الوطنِ العربيِّ.. كلُّ هذا كانَ بدايةً للتحولِ الذي شهدتهُ المنطقةُ العربيةُ بدايةً من ثوراتِ الربيعِ العربيِّ 2011 وسقوطِ بعضِ الأنظمةِ، مع التفككِ والحروبِ الأهليةِ، فإذا بنا في حالةٍ يُرثى لها من القاصي والداني بعدَ سقوطِ الادعاءاتِ والأقنعةِ الغربيةِ عن الحرياتِ وحقوقِ الإنسانِ وكلِّ المنظماتِ الدوليةِ التي لم يعدْ لها أيُّ قوةٍ أو تأثيرٍ فيما يجري من حصارٍ أو مجاعةٍ أو حروبٍ داخليةٍ… أينَ الفنُّ والدراما والأدبُ مما يجري من حولِنا؟! وما هوَ العملُ الإبداعيُّ الذي يرصدُ بفنٍّ وحرفيةٍ وإبداعٍ كلَّ ما يحدثُ من حولِنا ويؤثرُ على حياتِنا اقتصاديًّا وسياسيًّا ومجتمعيًّا؟! كيفَ أصبحَ المجتمعُ في حالةِ غضبٍ يبحثُ عن جانٍ أو ضحيةٍ ليقتصَّ منها لكلِّ إحباطاتِهِ؟! .. حالةٌ من التشويشِ الفكريِّ والثقافيِّ تأثرتْ بالوضعِ العالميِّ وبما يُسمى غيابَ الرؤيةِ والقدرةِ والنموذجِ وتضاءلَ الروحانياتُ وابتعادُ الكثيرِ عن الدينِ وقيمِهِ ومبادئِهِ الإنسانيةِ وجوهرِهِ واهتمامِهِ بالطقوسِ والشعائرِ دونَ السلوكِ والمعاني، وضعيةٌ مُستحدثةٌ من الاستقطابِ الفكريِّ والدينيِّ والعقائديِّ تضربُ في جذورِ التماسكِ المصريِّ الممتدِّ عبرَ أروقةِ التاريخِ، لذا فإننا نحتاجُ إلى صحوةٍ فكريةٍ وفنيةٍ وإبداعيةٍ تُبدعُ وتُسجلُ تحولاتِ المحروسةِ دونَ خوفٍ أو ترهيبٍ… الفنُّ رسالةٌ حرةٌ وإبداعٌ إنسانيٌّ يحيى ونحيا معَهُ.