التوقيعُ بحضورِ هاميلتون

في خطوةٍ أثارتْ جدلًا واسعًا، وقَّعَ الرئيسُ الأمريكيُّ دونالد ترامب الأمرَ التنفيذيَّ رقمَ “14257” الصادرَ في الثاني من أبريل 2025، فرضَ بموجبِهِ تعريفاتٍ جمركيةً واسعةَ النطاقِ، مدعيًا حمايةَ الاقتصادِ والأمنِ القوميِّ. الحدثُ الأكثرُ جدلًا أنَّ التوقيعَ تمَّ بحضورِ صورةِ ألكسندر هاميلتون (1757-1804)، أولِ وزيرِ خزانةٍ أمريكيٍّ، في إشارةٍ واضحةٍ إلى تبني ترامب لأفكارِ هذا الرجلِ، أو إلى أنَّ هذه القراراتِ تستندُ إلى الأصولِ النظريةِ لسياستِهِ الاقتصاديةِ.
في الواقعِ، إدارةُ ترامبَ تنتهجُ نفسَ سياسةِ هاميلتونَ الاقتصاديةِ القديمةِ “التصنيعُ البديلُ للوارداتِ ISI”، وترتكزُ هذه السياسةُ الاقتصاديةُ إلى نظريةٍ مفادُها أنَّ الاقتصادَ الأمريكيَّ قادرٌ على تحفيزِ النموِّ في قطاعِهِ الصناعيِّ باستخدامِ التعريفاتِ الجمركيةِ على الوارداتِ لحمايةِ “الصناعاتِ الناشئةِ” المحليةِ من المنافسةِ الأجنبيةِ. عمومًا، تُدعمُ سياسةُ التعريفاتِ الجمركيةِ المرتفعةِ بسياسةِ دعمٍ للقطاعِ الصناعيِّ لتقليلِ الفجوةِ التكنولوجيةِ مع الصناعاتِ الأوروبيةِ. كما ترتبطُ سياسةُ تقليلِ الوارداتِ بهدفِ الاستفادةِ من قوةِ العملِ، وتعظيمِ فرصِ استغلالِ المواردِ الطبيعيةِ والمنتجاتِ الزراعيةِ اللازمةِ للتصنيعِ.
كانَ ألكسندر هاميلتون، أولَ وزيرِ خزانةٍ أمريكيٍّ (شغلَ منصبَهُ من عامِ 1789 إلى 1795)، وأولَ ممارسٍ أمريكيٍّ لسياسةِ “التصنيعِ البديلِ للوارداتِ”. في تقريرِهِ عن الصناعاتِ التحويليةِ، دعا هاميلتون إلى دعمِ الصناعاتِ الناشئةِ، وفرضِ تعريفاتٍ جمركيةٍ معتدلةٍ على الوارداتِ (بهدفِ زيادةِ الإيراداتِ) والحدِّ من تدفقِ السلعِ البريطانيةِ المصنعةِ عاليةِ الجودةِ، ونقلِ تقنياتٍ جديدةٍ للقطاعاتِ الصناعيةِ الحديثةِ وتقليلِ الاعتمادِ على الأنشطةِ التقليديةِ مثلِ الزراعةِ.
ولكنَّ الفكرةَ لم تكنْ بهذا المثاليةِ (الاقتصاديةِ)، فهاميلتونُ الذي كانَ مهاجرًا طموحًا، توقعَ أنْ يجذبَ الاقتصادُ الصناعيُّ الأمريكيُّ المتنامي مهاجرينَ آخرينَ. وهناك فرصٌ كبيرةٌ لاستقطابِ مهندسينَ وخبراءَ في المجالاتِ الصناعيةِ، وبطبيعةِ الحالِ، معهم خبراتُهم وأسرارُ صناعاتِهم الأوروبيةِ، وكما توقعَ هاميلتون جذبَ الشبابِ المهاجرينَ، توقعَ أيضًا جذبَ رؤوسِ الأموالِ، والتي غالبًا ما تبحثُ عن فرصٍ إنتاجيةٍ وأسواقٍ جديدةٍ.
سياسيًّا، لقيتْ أفكارُ هاميلتونَ فيما يخصُّ التصنيعَ البديلَ للوارداتِ، قبولًا كبيرًا، لم يتوفرْ لقضيتي التعريفاتِ الجمركيةِ وكيفيةِ توزيعِ الدعمِ على القطاعاتِ الصناعيةِ، واللتينِ أصبحتا موضعَ خلافٍ. الكارثةُ، أنَّ هذا الخلافَ لهُ طبيعةٌ مناطقيةٌ، بمعنى أنَّ الولاياتِ الشماليةَ (الصناعيةُ الأصلُ) استفادتْ بشكلٍ أكبرَ وأسرعَ من الولاياتِ الجنوبيةِ (الزراعيةُ الأصلُ). ويؤكدُ بعضُ المؤرخينَ (مثلَ هينتون هيلبر وجون كالهون، وهنري كلاي) بأنَّ الخلافَ الوطنيَّ المبكرَ حولَ الاستثمارِ الصناعيِّ ومستوى التعريفاتِ الجمركيةِ، ودورِ الدعمِ الصناعيِّ، قد زرعتْ بذورَ الحربِ الأهليةِ الأمريكيةِ 1861 إلى 1865.
وبالعودةِ إلى صورةِ هاميلتونَ المعلقةِ على يمينِ مكتبِ ترامبَ. إنَّ الظروفَ الاقتصاديةَ اليومَ تختلفُ جوهريًّا عن تلكَ التي سادتْ في أواخرِ القرنِ الثامنَ عشرَ. فالعالمُ يشهدُ مستوياتٍ غيرَ مسبوقةٍ من الترابطِ الاقتصاديِّ وسلاسلِ الإمدادِ العالميةِ المعقدةِ. وبالتالي، فإنَّ فرضَ تعريفاتٍ جمركيةٍ واسعةِ النطاقِ في هذا السياقِ قد يؤدي إلى نتائجَ مختلفةٍ تمامًا عما كانَ متوقعًا في زمنِ هاميلتونَ. كانَ يجبُ أولًا حسابُ تأثيرِ هذهِ التعريفاتِ على القدرةِ التنافسيةِ للصناعاتِ الأمريكيةِ، وتكاليفِ الإنتاجِ، وأسعارِ السلعِ للمستهلكينَ، بالإضافةِ إلى تأثيرِها المحتملِ على العلاقاتِ التجاريةِ مع الدولِ الأخرى واحتماليةِ الردودِ الانتقاميةِ التي قد تضرُّ بالاقتصادِ الأمريكيِّ نفسِهِ.
ختامًا، فإنَّ استحضارَ شبحِ هاميلتونَ في معركةِ ترامبَ الاقتصاديةِ ليسَ مجردَ صدفةٍ تاريخيةٍ، بل استنساخٌ مُشوَّهٌ لتعويذةٍ مُنقرضةٍ. فبينما اعتمدَ هاميلتونُ على المهاجرينَ، يُسارعُ ترامبُ بطردِهم، وبينما سعى الجدُّ المؤسسُ إلى بناءِ اقتصادٍ ناشئٍ، يُخاطرُ الحفيدُ المتهورُ بتقويضِ عالمٍ مترابطٍ، مُحولًا الحمايةَ إلى عزلةٍ، والوحدةَ إلى صراعٍ، والمستقبلَ إلى مجهولٍ. تقولُ الأمُّ تيريزا: “الأمسُ مضى. لم يأتِ الغدُ بعدُ. ليسَ لدينا سوى اليومِ. فلنبدأْ.”