هو وكلُّ الضمائرِ الغائبةِ «٩»

غبيٌّ من يعتقدُ أنَّ التعليمَ مجردُ شهادةٍ يتمُّ الحصولُ عليها أيًّا كانَ مستوى هذهِ الشهادةِ، خاصةً إذا كنَّا فى بلدٍ يتميزُ بشراءِ الشهاداتِ وسنواتِ النجاحِ غالبًا بالمالِ دونَ أنْ يكونَ مُنتجُ التحصيلِ العلميِّ أو حتى المعلوماتيِّ موجودًا بشكلٍ حقيقيٍّ لدى الأبناءِ، والأدلةُ كثيرةٌ على ما أقولُ، يتخرجُ العديدُ من الجامعاتِ حتى ممَّا نُطلقُ عليها كلياتِ القمةِ وهم لا يتمتعونَ بأدنى درجاتِ العلمِ، ولا حتى الأخلاقِ أيضًا، لأنَّ الأمرَ أصبحَ: من يدفعُ لدروسٍ خصوصيةٍ أكثرَ.. ينجحُ بدرجاتٍ أكبرَ، من يتمكنُ من الغشِّ فى الامتحاناتِ.. ينجحُ بتفوقٍ، ومن تتسربُ إليهِ الامتحاناتُ ينجحُ بامتيازٍ، فلا دَهشةَ أنْ نجدَ كثيرًا من الناجحينَ بل من المتفوقينَ أيضًا ليسَ لديهم من العلمِ ولا العلومِ إلا الهوامشُ التى لا تُغنى ولا تُسمنُ من جوعٍ فى حياتِهم العمليةِ.
وليسَ منَّا من لم يشاهدِ الطلابَ فى كلِّ مراحلِ التعليمِ يُمزقونَ الكتبَ أو كشاكيلَ المحاضراتِ والمذكراتِ بمجردِ خروجِهم من الامتحانِ، لأنهم تربوا على هذا المفهومِ الضيقِ والمُسطحِ للتعليمِ، وهو ربطُهُ بالنجاحِ دونَ الاستفادةِ شخصيًّا بما درسَهُ طيلةَ سنواتِ الدراسةِ، وهذا يؤكدُ أنَّ العمليةَ التعليميةَ اعتمدتْ على التلقينِ المؤقتِ لا الفهمِ والإدراكِ الواعى المستمرِ، وهو أمرٌ مُؤسفٌ يتلاقحُ مع اعتمادِ التعليمِ على تمويلِ هذا التلقينِ دونَ إعمالِ العقلِ للاستفادةِ والإفادةِ العمليةِ ممَّا تمَّ دراستُهُ.
والتعليمُ بهذا الأسلوبِ يتعارضُ تمامًا مع أهدافِ التعليمِ التنمويةِ والتربويةِ، بوصفِ التعليمِ من أهمِّ عواملِ التنميةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ تنميةً مُستدامةً، لذا وللأسفِ أصبحَ مُنتجُ العمليةِ التعليميةِ غالبًا هو شبابٌ لا يتمتعُ بالمهاراتِ الحقيقيةِ ولا المعرفةِ الواعيةِ، ولا القدرةِ على مواجهةِ تحدياتِ الحياةِ، ولا أيضًا القدرةِ على الانخراطِ فى الحياةِ العمليةِ، وهنا يتدخلُ المالُ «كرشاوى» والنفوذُ «كوساطةٍ» أيضًا لدى الكثيرِ من الخريجينَ لإلحاقِهم بأعمالٍ ومراكزَ دونَ تمتعِهم بقدراتٍ ومؤهلاتٍ علميةٍ حقيقيةٍ لتلكَ الأعمالِ، ولتستمرَّ بذلكَ الدورةُ المجتمعيةُ الفاشلةُ فى العطاءِ والقيمةِ، وليزدادَ المجتهدون أصحابُ القدراتِ والمؤهلاتِ العلميةِ الحقيقيةِ إحباطًا وشعورًا بالقهرِ والفشلِ.
إنها منظومةُ المالِ والسلطةِ التى تركناها تنهشُ فى التعليمِ، وما أسوأَ أنْ تسيرَ عمليةُ التعليمِ داخلَ حلقاتِ هذهِ المنظومةِ المتوحشةِ، لأنها تعنى انهيارَ المجتمعِ بصورةٍ تُشبهُ الطفرةَ وليسَ حتى تدريجيًّا، وستعنى أيضًا خلقَ وتنامى فئاتٍ حاقدةٍ ناقمةٍ، سواءٌ تلكَ التى ليسَ لديها القدرةُ على شراءِ التعليمِ بالمالِ، أو تلكَ التى اجتهدتْ بشكلٍ شخصيٍّ لتحصلَ على النجاحِ ولكنها لا تتمتعُ بأحدِ قطبى التحكمِ الحاليِّ فى المجتمعِ للحصولِ على عملٍ بشهادتِها وأعنى بها «المالَ والسلطةَ أو النفوذَ» فى ترجمةِ ثمرةِ اجتهادِها وتعبِها إلى واقعٍ عمليٍّ يُفيدُها ويُفيدُ المجتمعَ ويتوجُ سنواتِ التعبِ والكفاحِ.
حتى إذا نظرنا بشكلٍ موضوعيٍّ لا حرجَ فيهِ إلى الحاصلينَ على درجاتِ الماجستيرِ والدكتوراهِ، سنجدُهم مُنتمينَ إلى ثلاثةِ فئاتٍ، الأولى تشترى تلكَ الشهاداتِ بالمالِ زورًا دونَ دراسةٍ أو تعبٍ سواءٌ من الخارجِ «غالبًا دولُ أوروبا الشرقيةِ»، أو يدفعُ لأحدِ المُزورينَ لتزويرِ شهادةٍ مُنتسبةٍ لأيِّ جامعةٍ مشهورةٍ فى الخارجِ دونَ أنْ يرى هو نفسُهُ حتى بنايةَ تلكَ الجامعةِ، أو يجعلُ غيرَهُ من الدارسينَ المتفوقينَ من الفقراءِ والمحتاجينَ يُعدُّ تلكَ الدراساتِ بمقابلٍ ماليٍّ وينسبُها لنفسِهِ، الفئةُ الثانيةُ تلكَ التى لها وساطةٌ من نفوذٍ وسلطةٍ كأنْ يكونَ ابنَ أستاذٍ جامعيٍّ أو قريبًا لهُ، وبالتالى يحصلُ على درجاتِ الدراساتِ العليا بسرعةٍ بمساعدةِ الجميعِ الذينَ يهرولونَ طوعًا أو كرهًا لتتويجِهِ بالدرجةِ العلميةِ دونَ جهدٍ منهُ يُذكرُ، وهذا هو نجاحُ المالِ والنفوذِ فى الدرجاتِ العلميةِ العليا بالجامعاتِ، أما الفئةُ الثالثةُ فهى التى تفتقدُ لهذينِ القطبينِ «المالَ والسلطةَ»، وبالتالى يقضى الدارسُ سنواتٍ عديدةً من شبابِهِ يُكافحُ لتحصيلِ تلكَ الدرجاتِ العلميةِ، وفى النهايةِ قد لا يحصلُ عليها لوجودِ أستاذٍ جامعيٍّ أو أكثرَ من المشرفينَ على رسالتِهِ العلميةِ يضنونَ عليهِ أنْ يصبحَ زميلًا لهم فى المستقبلِ، لأنهُ فى نظرِهم دونَ المستوى الاجتماعيِّ للوصولِ إلى هذهِ الدرجةِ ولهذا المنصبِ العلميِّ، وتضجُّ الجامعاتُ بمثلِ تلكَ النماذجِ، ومن الدارسينَ من يتخلى مُكرهًا عن حلمِهِ تمامًا فى الدراساتِ العليا بسببِ تعنتِ الأساتذةِ، ولا أتحرجُ أنْ أقولَ إنَّ بعضَ أساتذةِ الجامعاتِ فقدوا ضميرَهم العلميَّ والإنسانيَّ تمامًا، ويعيشُ هذا الأستاذُ دورَ الإلهِ المُتفردِ الذى لا يريدُ أنْ يُشاركُهُ أحدٌ فى مُلكِهِ ويتعاملُ بصلفٍ ليسَ لهُ حدودٌ مع طلابِ الدراساتِ العليا من المنتمينَ للطبقاتِ الكادحةِ للشعبِ، وإجمالًا من كلِّ ما تقدمَ، نجدُ أنَّ منظومةَ التعليمِ ككلٍّ تحتاجُ إلى إعادةِ تنظيمٍ وتقويمٍ بدءًا من تلكَ الحضاناتِ الخاصةِ مجنونةِ التكاليفِ، مرورًا بمراحلِ التعليمِ الأساسيِّ الذى فقدَ القيمةَ والعلمَ والأخلاقَ فى المدارسِ العامةِ، وجنونِ المصاريفِ فى المدارسِ الخاصةِ، وصولًا إلى الجامعاتِ التى لم تعدْ محرابًا قويمًا للعلمِ وإعدادِ أجيالٍ جادةٍ تحملُ المسئوليةَ على أكتافِها، سواءٌ مسئوليةَ نفسِها أو مسئوليةَ مجتمعِها الذى هوَ فى حاجةٍ إلى العلمِ والتقدمِ والتنميةِ ليخرجَ من عُنقِ الزجاجةِ الذى طالَ بقاؤُهُ بداخلِها حتى وصلَ لمرحلةِ الاختناقِ.. وللحديثِ بقيةٌ.
[email protected]