الآثارُ الجانبيةُ لتعريفاتِ ترامبَ (٢)

الآثارُ الجانبيةُ لتعريفاتِ ترامبَ (٢)

تناولنا فى المقالِ السابقِ كيفَ أثرتْ قراراتُ ترامبَ والخاصةُ بالتعريفاتِ الجمركيةِ، وما أحدثتهُ من تداعياتٍ غيرِ مسبوقةٍ على مستوى العالمِ، فى ظلِّ أنَّ الاقتصادَ الأمريكيَّ الذى يمثلُ أكبرَ قوةٍ اقتصاديةٍ على مستوى العالمِ بناتجٍ محليٍّ إجماليٍّ 29 تريليونًا عامَ 2024 وبنسبةِ 26% من الناتجِ المحليِّ الإجماليِّ العالميِّ، لكنَّ هذه النسبةَ لا ترضى بها الإدارةُ الأمريكيةُ الحاليةُ التى تريدُ أنْ تكونَ 50% على الأقلِّ، استرشادًا بآراءِ الخبراءِ الإستراتيجيينَ الأمريكيينَ بعدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، الذينَ أوصوا بأنْ لا تقلَّ نسبةُ استحواذِ أمريكا عن 50% من ثرواتِ العالمِ حتى تصبحَ القوى الأولى العظمى وبلا منازعٍ، وهو ما أكدتْهُ خطةُ دارجى الأوروبيةُ، لذلكَ فإنَّ استمرارَ الدولارِ على عرشِ العملاتِ العالميةِ -وبنسبةٍ لا تقلُّ عن 59% حتى بعدَ عمليةِ فكِّ الارتباطِ التى أقدمَ عليها الرئيسُ الأمريكيُّ الأسبقُ نيكسون عامَ 1971- يمثلُ نقطةً جوهريةً فى عمليةِ احتيالٍ أمريكيٍّ حقيقيٍّ على ثرواتِ العالمِ، فالمفترضُ أنْ يكونَ الناتجُ المحليُّ الإجماليُّ العالميُّ مساويًا للاحتياطياتِ وكمياتِ الذهبِ العالميةِ الموجودةِ فى دولِ العالمِ بالكاملِ، هذا الذهبُ الذى لا تتعدى قيمتُهُ 15 تريليونَ دولارٍ عامَ 2024، لكنَّ المفاجأةَ أنَّ الناتجَ المحليَّ الإجماليَّ العالميَّ قد بلغَ 110 تريليوناتِ دولارٍ خلالَ نفسِ الفترةِ، وبالتالى فإنَّ هذا الفرقَ 95 تريليونَ دولارٍ تمثلُ ثرواتٍ استحوذتْ عليها أمريكا بدونِ وجهِ حقٍّ عبرَ طباعةِ الدولارِ. وهو ما يعنى انهيارًا حقيقيًّا للاقتصادِ العالميِّ الذى يمثلُ فيهِ الدولارُ السيفَ الذى تستخدمُهُ الإدارةُ الأمريكيةُ فى فرضِ العقوباتِ الاقتصاديةِ على الدولِ، وحرمانِها من استخدامِ نظامِ المدفوعاتِ الدوليةِ المعروفِ بالسويفتِ، وهو ما أكدَ عليهِ أكثرُ من 15 بنكًا كبيرًا فى الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ من أنَّ أمريكا سوفَ تشهدُ ركودًا تضخميًّا بنسبةٍ لا تقلُّ عن 45%، وهو ما يمثلُ بدايةً لارتفاعِ الفائدةِ فيها، مما يعنى أنَّ القراراتِ العشوائيةَ للإدارةِ الأمريكيةِ كلفتْها خسارةً حتى الآنَ تعادلُ ما كانتْ ستحصلُ عليهِ طوالَ 10 سنواتٍ من تطبيقِ هذهِ التعريفةِ الجمركيةِ، وبالتالى فقدْ تعالتِ الدعواتُ بضرورةِ التفاوضِ مع دولِ أوروبا فى المدى القصيرِ لتطبيقِ خطةِ ماريو دارجى 2024 بما يضمنُ تحويلَ الادخارِ الأوروبيِّ إلى استثمارٍ، وتحويلَ ديناميكيةِ الاقتصادِ الأوروبيِّ من الطلبِ الخارجيِّ إلى الطلبِ الداخليِّ، وذلكَ بعدَ أنْ حذرَ من أنَّ أوروبا تواجهُ خطرَ الانكماشِ الاقتصاديِّ والتراجعِ التكنولوجيِّ، خطةُ دارجى تصلحُ لكلِّ التجمعاتِ العالميةِ والاقتصادياتِ الناشئةِ، حيثُ تعتمدُ الخطةُ على وجودِ استثماراتٍ ضخمةٍ فى مجالاتِ الطاقةِ النظيفةِ والتكنولوجيا، إضافةً إلى إصلاحاتٍ هيكليةٍ فى الأسواقِ الماليةِ وسوقِ العملِ، إلا أنَّ هذه الخطةَ تواجهُ تحدياتٍ سياسيةً واقتصاديةً كبيرةً، أبرزُها ما قد يحدثُ من وجودِ خلافاتٍ بينَ الدولِ الأعضاءِ حولَ آلياتِ التمويلِ، ولكنَّ ما يؤيدُ وجهةَ نظرِ الكاتبِ حولَ فلسفةِ هذا المقالِ، أنَّ فلسفةَ خطةِ دارجى تقومُ على أننا نتشاركُ فى هذهِ الكعكةِ التى تصغرُ أكثرَ فأكثرَ مع عددٍ أقلَّ من الناسِ، فى حينِ أنَّ هذهِ النظرةَ المتشائمةَ لم تأتِ من فراغٍ، بل هى نتيجةٌ لتحليلٍ عميقٍ للواقعِ الاقتصاديِّ والتكنولوجيِّ الذى تعيشُهُ أوروبا منذُ عقدينِ، فى الوقتِ الذى هيمنتْ فيهِ الولاياتُ المتحدةُ على هذا المجالِ، وجدتْ أوروبا نفسَها متخلفةً، وغيرَ قادرةٍ على مواكبةِ التطوراتِ فى عالمِ التكنولوجيا، هذا التخلفُ لم يقتصرْ تأثيرُهُ على قطاعٍ بعينِهِ، بل امتدَّ ليشملَ مختلفَ جوانبِ الاقتصادِ الأوروبيِّ، والعالميِّ.. وهو ما سوفَ نتناولُهُ فى المقالِ القادمِ إنْ شاءَ اللهُ.

رئيسُ المنتدى الإستراتيجيِّ للتنميةِ والسلامِ