أمجد مصطفى يكتب : شخصيات سمير فرج.. من ميادين القتال إلى منابر الثقافة

أمجد مصطفى يكتب : شخصيات سمير فرج.. من ميادين القتال إلى منابر الثقافة

فى زمن تتداخل فيه خيوط السياسة والثقافة، وتتشابك فيه التجارب الفردية مع مسارات الوطن، يأتى الكتاب السابع من مؤلفاته «شخصيات فى حياتي» للواء الدكتور سمير فرج ليقدّم شهادة استثنائية على حقبة من أدق الحقب فى تاريخ مصر، من قلب المعركة إلى كواليس القرار، ومن خشبة الأوبرا إلى مجالس الساسة والقادة.
لا يكتفى «فرج» بسرد مذكرات تقليدية، بل يصوغ تجربة حياتية متكاملة تنبض بالحيوية والتنوع، يبدأ من نقطة محورية فى تاريخه وتاريخ الوطن، حين كان أصغر ضابط فى غرفة عمليات حرب أكتوبر 1973، مشاركًا فى صناعة النصر الذى لا يزال حاضرًا فى الوجدان المصرى، فى هذا السياق، يكشف عن تفاصيل دقيقة وتفاعلات إنسانية مع كبار القادة العسكريين مثل الفريق سعد الدين الشاذلى، والمشير محمد عبد الغنى الجمسى، واللواء صلاح فهمى، موثقًا لتجربة لا تتكرر.
ومن قلب المعركة، ينتقل بنا إلى لحظة خاصة تحمل طابع السرية والدهشة، حين يروى تفاصيل لقائه السرى بالرئيس جمال عبد الناصر، والذى ظل حبيس الصمت لأكثر من ثلاثة عقود، وتستمر الرحلة عبر محطات بارزة من علاقته الممتدة مع الرئيس محمد حسنى مبارك، الذى لعب دورًا فى تشكيل مسيرته المهنية، سواء فى القوات المسلحة أو فى مواقع المسئولية المدنية.
ومن بين المحطات اللافتة فى الكتاب، ما يرويه الدكتور سمير فرج عن لقائه الأول بالرئيس عبد الفتاح السيسى، حين كان السيسى ملازمًا أول والتحق بالكتيبة ٣٤ مشاة، التى كان «فرج» قائدًا لها فى ذلك الوقت، يصفه بأنه كان من أكثر الضباط تميزًا بين زملائه، مما دفعه لاختياره ليشغل منصب ضابط الاستطلاع بالكتيبة، وهو موقع لا يُمنح إلا لمن يتمتع بالكفاءة والانضباط العالى، كما يروى المؤلف بفخر كيف حصل السيسى على درجة الامتياز رغم صغر سنه، وهو إنجاز غير معتاد فى هذا السن المبكر، ويعكس نبوغًا مبكرًا ووعيًا عسكريًا استثنائيًا.
ويواصل الدكتور سمير فرج فى هذا الكتاب الكشف عن الوجوه الإنسانية لقادة مصر، فيسجل موقفًا مؤثرًا جمعه بالمشير حسين طنطاوى، رحمه الله، يكشف عن معدن الرجال وقت الأزمات ووفائهم وقت السعة.
ففى إحدى زيارات المشير لمدينة بورسعيد لافتتاح نادٍ اجتماعى، طلب منه الدكتور سمير أن يرافقه إلى مطعم صغير يمتلكه رجل بسيط، كان قد استضافهم أثناء الحرب مع عدد من الجنود المصريين، ورفض حينها أن يتقاضى أجرًا على الطعام.
استجاب المشير طنطاوى للطلب، وذهبا معًا دون حراسة إلى المطعم، لكنهما لم يجدا الرجل فى البداية، فاستدعاه أبناؤه، وعندما حضر، تعرف على المشير لكنه لم يتذكر تفاصيل تلك الليلة، فبادره المشير بالحديث عنها، ليُعيد إليه مشهدًا محفورًا فى ذاكرة الوطن.
لاحظ المشير علامات الكبر والاحتياج على ملامح الرجل، فقرر تحمّل تكاليف تطوير المطعم من ماله الخاص، عرفانًا بالجميل ووفاءً لما قدّمه الرجل فى لحظة وطنية نادرة.
لكن القدر لم يمهله، ورحل الرجل بعد أيام قليلة، وأُقيمت له جنازة شارك فيها عدد من قيادات الجيش المصرى، تحية وتكريمًا لرجل ناضل بطريقته، وساهم بصمت فى صناعة لحظة من لحظات الشرف الوطنى.
ولا تقتصر شهادة الدكتور سمير فرج على الجوانب الإنسانية فقط، بل تمتد لتوثيق اللحظات الفاصلة فى تاريخ الوطن، فيتوقف عند دور المشير حسين طنطاوى فى عبور مصر من ثورة يناير 2011 إلى بر الأمان.
يُبرز المؤلف حكمة القائد العسكرى الذى حمل أمانة الوطن فى لحظة فارقة، ونجح فى الحفاظ على مؤسسات الدولة من الانهيار وسط العواصف، واضعًا المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، لقد كان طنطاوى، فى نظر الدكتور سمير، الرجل المناسب فى الزمن الصعب، الذى أمسك بعجلة القيادة بثبات عندما كانت البلاد على شفا هاوية.
لكن ما يميز الكتاب حقًا هو تلك المساحة التى يخصصها فرج لتجربته فى رئاسة دار الأوبرا المصرية، حيث تتقاطع الثقافة مع القيادة، والإدارة مع الإبداع، هنا نراه فى حوارات إنسانية مع عادل إمام، ووحيد حامد، وأسامة أنور عكاشة، وغيرهم من أعمدة الفن والفكر المصرى، فى هذه الصفحات، يضيء المؤلف على الجانب الرقيق من شخصيته، ذلك الذى يؤمن بقوة الفن فى بناء الوعى وتشكيل الهوية.
ومن بين الصفحات المؤثرة فى الكتاب، تأتى قصة تلامس المشاعر بصدق ووجع، قصة إنسانة بسيطة جاءت لتحمل لقب «أم الشهداء» كما أطلق عليها الدكتور سمير فرج، هى سيدة أفنت جزءًا من حياتها فى خدمة أسر الشهداء، مقدمة لهم الدعم المادى والمعنوى فى صمت ونُبل. ساعدت فى تزويج بناتهم، وتكفلت بعمرة من حُرمها، وأجرت عمليات جراحية لمن لم يجدوا سبيلًا للعلاج، وكانت سندًا لما يقرب من مئتى أسرة، ورغم كل هذا العطاء، انتهى بها الحال فى دار للمسنين بعد أن هجرها أبناؤها، وماتت وحيدة لا يرافقها فى رحيلها إلا من عرف قيمتها الحقيقية؛ فكان الدكتور سمير فرج هو الوحيد من خارج الدار الذى سار فى جنازتها.
بعد أن أعد لها المدفن الخاص بها، ولخص الحكاية فى عنوان ومشيت فى الجنازة وحيدا، عنوان يعكس إنسانية المؤلف، و يلخص حياة هذه السيدة التى هجرها الأبناء.
ويذكر المؤلف أنه عرض عليها فى حياتها أن تُكرم من قبل السيدة سوزان مبارك، حرم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، تقديرًا لجهودها، لكنها رفضت، مفضّلة ثواب الآخرة عن تصفيق الدنيا، جاءت هذه القصة تحت عنوان بليغ وموجع: «ومشيت فى الجنازة وحيدًا»، عنوان يلخص حجم الفقد، وصدق الوفاء.
لقد عاش الدكتور سمير فرج حياة ثرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ثراءً فكريًا وإنسانيًا وتجريبيًا، فهو العسكرى البارز الذى بلغ رتبة لواء وتولى منصب مدير إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية، والضابط الشاب الذى جلس إلى جوار كبار قادة الجيش فى غرفة عمليات حرب أكتوبر المجيدة، مشاركًا عن قرب فى لحظة من أعظم لحظات التاريخ المصرى الحديث.
ثم جاءت نقلة فريدة حين تولى رئاسة دار الأوبرا المصرية، أكبر صرح ثقافى وفنى فى البلاد، فلم يتوقف أمام كونه قائدًا عسكريًا سابقًا، ولم ير فى العمل الثقافى تقليلًا من تاريخه العسكرى، بل خاض التجربة بإيمان عميق بقوة الفن، فحوّل الأوبرا من مجرد مبنى فاخر تخشاه العامة إلى مؤسسة نابضة بالحياة، تمثل نموذجًا ناجحًا للقوة الناعمة المصرية، وكيانًا شعبيًا جاذبًا لكل فئات المجتمع.
ولم تقف المسيرة عند حدود الثقافة، بل امتدت إلى الجنوب، حيث تولى مسئولية رئاسة المجلس الأعلى للأقصر وبفضل جهوده تحولت من مدينة إلى محافظة الأقصر، فارتقى بها من مدينة أثرية تقليدية إلى محافظة ذات طابع عالمى، فى عهده، لم تعد الأقصر مجرد متحف مفتوح، بل تحولت إلى مدينة حديثة تُضاهى كبرى عواصم العالم، وقدّم للبشرية مشروع «طريق الكباش» الذى أعاد للأقصر مجدها الفرعونى، وأخرجها من فوضى العمران إلى تخطيط حضارى راقٍ.
ثم اختار أن يواصل العطاء من موقع جديد، فاتجه إلى الإعلام، كاتبًا مقالًا أسبوعيًا فى كبرى الصحف المصرية والعربية، ومحللًا عسكريًا من طراز رفيع، يجمع بين المعلومة الدقيقة، والرؤية الاستراتيجية، والطرح المتزن.
تلك قصة رجل أعطى بلاده كل ما يملك من وقت وجهد، قدّم من صحته وابتعد عن أسرته لأجل وطن آمن به ووقف فى خدمته على مدار عقود، إنها سيرة عطاء لا يعرف التوقف، ومثال حى على أن الوطنية ليست شعارًا، بل فعل مستمر.
ولا تتوقف الرحلة عند حدود الوطن، بل تمتد إلى العالم من خلال لقاءاته شخصيات دولية بارزة خلال فترة توليه محافظة الأقصر، المدينة ذات الأهمية الحضارية العالمية، نقرأ عن حواراته مع الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى، ورئيس الوزراء البريطانى تونى بلير، وملكة النرويج، إضافة إلى تواصله مع العالم المصرى الدكتور مجدى يعقوب، فى مزيج من السياسة والدبلوماسية والإنسانية.
وفى خضم كل هذه المحطات، تبرز شخصية اللواء الدكتور سمير فرج كحالة فريدة تتجاوز حدود المناصب، فهو صاحب كاريزما إنسانية تدخل القلوب وتزيل الحواجز، أينما وُجد، يتمتع بقدرة لافتة على التواصل مع جميع الفئات، سواء داخل الأوساط العسكرية أو الثقافية أو الشعبية، يدهشك بتواضعه، ويكسب احترامك بثقافته الواسعة التى تشمل الفنون، والسياسة، والتاريخ، والإدارة، شخص متشعب الثقافات لا يمل من تكرار النجاح، لا يرى فى الإنجاز محطة للراحة، بل دافعًا للاستمرار والعطاء.
الرسالة الجوهرية التى تتخلل الكتاب أن النجاح لا يُصنع فى عزلة، إنه ثمرة لقاءات وتفاعلات وعلاقات إنسانية تصوغ الفرد وتعيد تشكيل مساره، بهذه الرؤية، يصبح الكتاب ليس فقط سيرة ذاتية، بل مرآة لفهم تأثير الشخصيات فى تشكيل المصير الفردى والجماعى.