مخالفات معلنة وسكوت رسمى

مخالفات معلنة وسكوت رسمى

وحدات مخالفة تُبنى نهارًا وتُباع ليلًا… أين الحي؟
«الكحول».. السلاح السرى للمخالفين
معركة الدولة ضد فوضى بناء الوحدات السكنية

رغم الجهود التى تبذلها الدكتورة منال عوض، وزيرة التنمية المحلية، والدكتور إبراهيم صابر، محافظ القاهرة، والدكتور حسام فوزى، نائب المحافظ للمنطقة الشمالية، فى مواجهة ملف مخالفات البناء واستعادة هيبة الدولة، فإن ما رصدته «تواصل» على مدار 15 يومًا فى حدائق القبة يكشف عن واقع آخر يضرب هذه الجهود فى مقتل.
فى جولة ميدانية استمرت 15 يومًا داخل شوارع وأزقة حى حدائق القبة، خاضت تواصل تحقيقًا ساخنًا وسط بيئة معقدة تُدار فيها مخالفات البناء كشبكة مصالح مغلقة، لا يدخلها إلا أصحاب النفوذ، ولا يخرج منها من يرفض التورط دون أن يدفع الثمن.
لم يكن الهدف مجرد رصد طوبة تُرفع أو عقار يُبنى بالمخالفة، بل الغوص فى عمق منظومة متشابكة، يتداخل فيها موظفون من الحى، وسماسرة محترفون، وملاك عقارات لا يعرفون القانون إلا لتجاوزه، كل طرف له دور محدد فى تمرير الجريمة، ومن يخرج عن النص، يتم التشهير به داخل «دائرة التأمر» بتهم مختلقة، فقط لأنه رفض قبض الثمن أو ابتلع الصمت.
تعرض صحفى «تواصل»، خلال تنفيذ التحقيق، لضغوط شديدة وتهديدات مباشرة وغير مباشرة، لإثنائه عن استكمال كشف الحقيقة، والتوقف عن توعية المواطنين بخطر شراء الوحدات المخالفة التى تُباع يوميًا بملايين، بينما قرارات الإزالة تجهز فى الأدراج، بانتظار من يدفع أكثر.
هذا التحقيق لم يكن مجرد توثيق لحالات، بل مواجهة مباشرة مع شبكة منظمة من الفساد، ما زالت تعبث بمصير أحياء كاملة، فى ظل غياب الردع الحقيقى بالقانون.
أداة خفية لهروب المخالفين
يكشف السمسار الشهير، الذى رفض الكشف عن هويته خوفًا من بطش المخالفين، عن واحدة من أخطر حيل البناء المخالف التى تستخدمها العصابات العقارية للهروب من قبضة القانون، الحيلة تتمثل فى «الكحول»، وهو رجل مسن مُستغل، لا يمتلك من العقار شيئًا، ولكن اسمه يُكتب فى كل أوراقه الرسمية من عقود وتراخيص وتحرير محاضر المخالفات.
ويقول السمسار، «المخالف الحقيقى لا يكتب باسمه شيئًا، بل يأتى برجل مسن ضعيف، غالبًا فقير أو مريض، يُقنعه بتسجيل كل شيء باسمه مقابل راتب شهرى لا يتجاوز 5 آلاف جنيه وبعض الوجبات البسيطة»، فى هذه الحيلة، يتم استخدام هذا الرجل المسن كبش فداء، لتبرئة المخالفين من أى مسئولية قانونية، بينما يظل الأخير فى الظل، يواصل بيع الوحدات السكنية المخالفة بملايين الجنيهات، فى أمان كامل، دون أن يقترب منه أحد.
وأضاف السمسار، أن المخالف يلعب على المكشوف، وتبدأ اللعبة بمساعدته فى تهريب المستندات والورق، بينما كل محضر يتعلق بالمخالفة يُحرر باسم هذا الرجل المسن، ليظل المخالف بعيدًا عن الأنظار تمامًا، فى النهاية، هو فقط ضحية يُستخدم كأداة فى منظومة فساد شاملة، بينما يحقق المخالف أرباحًا ضخمة من ورائه.
تزوير أوراق وشقق مخالفة
داخل حى حدائق القبة، لم تعد المخالفات العقارية مجرد تجاوزات تُرتكب فى الخفاء، بل أصبحت تجارة معلنة، تدار بحرفية، وبمشاركة خفية من بعض الموظفين المحليين، على حد وصف السكان.
يقول محسن. م، أحد سكان حدائق القبة، إن هناك وحدات سكنية تُبنى بالكامل فى أيام معدودة، ويتم تشطيبها خلال أسبوع على الأكثر، لتُطرح بعدها للبيع بأسعار تتجاوز مليون ونصف، و2 مليون جنيه للشقة الواحدة، رغم كونها مخالفة بالكامل.
المفزع فى حديثه، ليس فقط سرعة البناء، بل ما وصفه بـ«الاحتيال المنظم» الذى يتم به خداع المشترين، «المخالف بيظبط أوراق الوحدة بشكل احترافى جدًا.. أوراق مطبوعة على كمبيوتره الشخصى، شبه الرسمية، عشان يطمن المشتري»، كما يقول محسن، مؤكدًا أن الأوراق تكون مزورة ببراعة، ولا يكتشف المشترى الخدعة إلا بعد فوات الأوان.
الأخطر كما يضيف محسن، أن بعض موظفى الحى أنفسهم باتوا جزءًا من هذه المنظومة، حيث يتم التغاضى عن المخالفة فى بدايتها، بل والمساعدة فى «تظبيط» الأوراق، مما يفتح الطريق أمام بيع هذه الوحدات دون عوائق فى الوقت المطلوب، قائلاً «المخالف دلوقتى مش بيهرب، ده بيشتغل عينى عينك، وبيبيع الشقة بمليون ونص و2 مليون كأنها مرخصة، والضحية هو المواطن اللى بيكتشف بعد كده إن الشقة مخالفة وصادر ضدها قرار إزالة»، بهذه الكلمات يلخص محسن مأساة المئات من المواطنين المغرر بهم فى حدائق القبة.
ما يجرى فى حدائق القبة يستدعى تدخلاً عاجلاً من الجهات الرقابية، ليس فقط لإزالة المبانى المخالفة، بل لملاحقة كل من تورط فى تمرير جريمة عقارية كاملة الأركان، ضحيتها الأولى هو المواطن الباحث عن سكن آمن.
عقارات بلا قانون
فى حى حدائق القبة، وعلى مرأى ومسمع من موظفى الحى، تنمو العقارات المخالفة كالفطر، بينما يغيب الردع، وتغيب معه الثقة فى تطبيق القانون، وحدات تُبنى دون ترخيص، وتُباع بسرعة فائقة عبر سماسرة محترفين، فيما يكتشف المواطن لاحقًا أنه ضحية لصفقة فاسدة، لا ذنب له فيها سوى أنه صدّق أن هناك دولة تحميه.
أسامة. أ، موظف حكومى بالمعاش يبلغ من العمر 61 عامًا وأحد سكان المنطقة، يقول إن المخالفات لم تعد استثناءً، بل أصبحت القاعدة، «اللى بيبنى مخالف مش بيشتغل بعشوائية، بيختار الأحياء اللى فيها طلب وسعر المتر فيها عالى، عشان يقدر يغامر ويكسب بسرعة، وحدات بتتبنى وبتتبع فى أيام، والكل ساكت»، على حد قوله.
ويؤكد أسامة، أن فرق المتابعة والإشغالات، والاسكان، والرصد، التابعة للحى تمر يوميًا فى الشوارع، وترى المخالفات فى بداياتها، لكن قلّما تُتخذ إجراءات حاسمة فى المهد، «المفترض أول ما يشوفوا شدة أو صب سقف بدون ترخيص، يبلغوا رئيس الحى ويصدر قرار إزالة فورى، لكن اللى بيحصل هو العكس.. صمت وتواطؤ، لحد ما العقار يبقى أمر واقع ومغلق الأبواب بالجنازير».
المشهد الأكثر قسوة، كما يرويه أسامة، يبدأ بعد البيع، المواطن الذى اشترى وحدة بمدخرات عمره، يكتشف بعد فترة أن العقار صادر بحقه قرار إزالة، ومجموعة محاضر، دون أن يجد من يوجه له إنذارًا أو يفتح له باب تفاوض، «اللى باع بيختفى، والمواطن يُترك فى مواجهة الدولة، رغم إنه ضحية مش مجرم».
وأوضح أسامة، ما يزيد من خطورة الأمر أن بعض عمليات البناء المخالف تُنفذ فى وضح النهار، وعلى مدار أسابيع، دون أن تتدخل الأجهزة التنفيذية مما يثير تساؤلات مشروعة عن وجود تواطؤ أو تغاضٍ ممنهج داخل منظومة الإدارة المحلية.
وأكد الموظف الحكومى بالمعاش، أنه فى ظل هذا الواقع، لم يعد الحديث عن قرارات إزالة كافيًا، بل المطلوب تحقيق شفاف فى ملفات الحى، ومحاسبة من تواطأ أو تغاضى أو تستر، فتمرير مخالفة بناء ليس خطأ إداريًا، بل جريمة يدفع ثمنها المواطن البرىء وحده، بينما ينجو المخالف الحقيقى، ويكرر فعلته فى مكان آخر بتوجيهات من موظفين فاسدين.
حاتم محمود: لن أسمح بمخالفة واحدة
أطلق حاتم محمود، رئيس حى حدائق القبة، تحذيرًا صارمًا لكل من تسول له نفسه مخالفة القانون، مشددًا على أن زمن الفوضى قد انتهى، وأن الحى يخوض معركة حقيقية ضد كل أشكال مخالفات البناء دون تهاون أو استثناءات.
وقال محمود، فى تصريح خاص لـ»تواصل»، «أنا الوحيد اللى منعت أى مخالف ومتحايل على القانون من دخول الحى، ولن أسمح بمخالفة واحدة على أرض الواقع، ولن أتهاون مع أى تعدٍ على القانون مهما كان المخالف، الحى لم ولن يكون ملاذًا للمخالفين، وأى محاولة للبناء دون ترخيص سيتم مواجهتها بالحسم والقانون».
وأكد محمود، أنه أكثر من تصدى للبناء المخالف على مستوى الأحياء، مشيرًا إلى أن جميع المبانى المخالفة التى تم رصدها جرى التعامل معها وفقًا للإجراءات القانونية، قائلاً: «أنا بقيّم حجم المخالفات وفقًا للمتغيرات المكانية، واللى عندى حاليًا 7 متغيرات فقط، وبمجرد ما نزيلهم بيبقى الوضع تحت السيطرة بدون أى متغير، كل متغير غير قانونى يتم التعامل معه فورًا بالإزالة دون تردد».
وأشار محمود، إلى أنه شكل فرقا لرصد المخالفات تعمل على مدار الساعة، وتقوم بتتبع أى محاولة للبناء المخالف فى المهد، موضحًا: «لو لقيت عامل واحد شغال داخل عقار مخالف، بيتم تكسير الباب فورًا والدخول لإزالة المخالفة، واتخاذ الإجراءات القانونية فى الحال، مش هنسمح لمخالف يبنى أو يتحدى الدولة والقانون».
وأضاف محمود، إذا ثبت أن هناك وحدة سكنية مخالفة، يتم على الفور إصدار قرار إزالة، ويتم إخطار قسم الشرطة لإخلاء الشقة، وتُنفذ الإزالة مهما كانت الظروف، حتى لو تم بيع الشقة المخالفة لمواطن آخر، القرار لا يسقط، والإزالة ستتم فى الموعد المحدد، العقوبة لا تسقط بتغيير المالك، ومفيش حماية لأى مخالف».
وشدد محمود، على أن التعامل مع المقاولين أو الأشخاص الذين تورطوا فى مخالفات بناء يجب أن يكون فقط من خلال الحى، حتى لا يقع المواطن ضحية فى فخ قانونى قد يُكلفه خسارة ماله أو وحدته، قائلاً «أى حد عايز يشترى شقة لازم يراجع الحى، يتأكد من سلامة الموقف القانونى، بدل ما يدخل فى دوامة القانون، ويتحمل تبعات مشكلته».
وختم رئيس حى حدائق القبة، برسالة شديدة اللهجة: «قرارات إزالة مخالفات البناء قادمة، ولن يُعطلها أحد، الدولة قوية، والقانون واضح، واللى هيخالف هيتحاسب، ما فيش استثناءات وما فيش تراجع، احنا بنشتغل لصالح الدولة والمواطن، وأى حد بيحاول يتعدى على أملاك الدولة أو يتحايل على القانون، مش هيلاقى غير المواجهة الحاسمة».
«قبل ما تشترى… استعلم»
فى خطوة تستهدف حماية المواطنين من الوقوع ضحايا لشراء وحدات سكنية مخالفة، أكدت عبير محمد، مديرة المركز التكنولوجى بحى حدائق القبة، أن المركز يقدم خدمة «الاستعلام عن العقار»  ويصدر الاستعلام خلال 24 ساعة فقط، مقابل رسوم رمزية لا تتجاوز 100 جنيه، وهى خطوة احترازية ضرورية قبل أى عملية شراء الوحدات السكنية محل الشك او الجديدة.
وقالت «محمد» فى تصريح خاص لـ«تواصل»، «حفاظًا على المواطن، بنطلب فقط صورة البطاقة الشخصية وعنوان العقار المطلوب الاستعلام عنه، خلال 24 ساعة بنصدر نتيجة الاستعلام من الإدارة الهندسية، وبتوصل للمواطن رسالة SMS توضح إذا كان فيه محاضر مخالفة أو إذا كانت الوحدة مُرخصة أم لا».
وشددت «محمد»، على أن مخالفات البناء تُحتسب على العين وليس على الحيازة، مما يعنى أن العقوبة أو العوائق القانونية مرتبطة بالوحدة ذاتها، وليس بالشخص المالك، وهو ما يستوجب على أى مشترٍ جديد توخى الحذر قبل اتخاذ قرار الشراء.
وأضافت «محمد»: «احنا شغالين بقالنا أكتر من 3 سنوات بنظام الاشتراطات البنائية الجديدة، وكنا من أول الأحياء اللى طلعت رخص اشتراطات من الجامعة، حى حدائق القبة تحديدًا أصدر حوالى 17 بيان صلاحية من الجامعة، وده يُحسب لينا كإنجاز تنظيمى ومؤسسي».
وفى ظل انتشار البناء المخالف فى العديد من المناطق، نصحت «محمد» المواطنين بعدم إتمام أى عملية شراء إلا بعد تقديم طلب استعلام رسمى للحى، ومعرفة موقف الوحدة من الناحية القانونية والتنظيمية، كما طالبت المواطنين، عند الشك فى وجود مخالفة، أن يضمنوا فى عقد البيع بندًا صريحًا يعفيهم من مسئولية استكمال إجراءات التصالح، ويُلقى بها على عاتق البائع أو المالك السابق.
«الموضوع مش محتاج مجازفة»، هكذا ختمت حديثها، مديرة المركز التكنولوجى، مشيرة إلى أن كثيرًا من المواطنين يقعون فى فخ وحدات غير مرخصة، ثم يجدون أنفسهم أمام مأزق قانونى أو إدارى، بينما كان بالإمكان تجنب ذلك بخطوة بسيطة مثل طلب الاستعلام، فى وقت تتزايد فيه حالات النزاع العقارى، مع تصاعد وتيرة الحملات التى تشنها الأحياء لإزالة أو التصالح مع مخالفات البناء، مما يجعل دور المركز التكنولوجى محوريًا ليس فقط فى تقديم الخدمة، بل فى نشر التوعية الوقائية، وفى ضوء هذه المعطيات، يبقى المواطن هو خط الدفاع الأول، وعليه أن يُحسن استخدام الأدوات القانونية المتاحة لحماية نفسه من الوقوع فى شرك الاحتيال العقارى أو التورط فى وحدات مخالفة قد تُكلفه الكثير.