الوقفُ الخيريُّ استثمارٌ مستدامٌ لبناءِ مجتمعٍ متكافلٍ

فى وطنٍ يعانى من فجواتٍ اجتماعيةٍ، وضغوطٍ اقتصاديةٍ متصاعدةٍ، يقفُ الوقفُ الخيريُّ ككنزٍ مهملٍ، وذخيرةِ إنقاذٍ لم تُطلقْ بعدُ فى معركةِ التنميةِ. هذا الموردُ الهائلُ، الذى شكّلَ لقرونٍ عمودًا فقريًّا للرحمةِ والتنميةِ والتعليمِ والرعايةِ الصحيةِ، باتَ اليومَ مرهونًا بالبيروقراطيةِ، ويئنُّ تحتَ وطأةِ الإهمالِ.
وفقًا لتقديراتِ وزارةِ الأوقافِ، تمتلكُ مصرُ آلافَ الأفدنةِ من الأراضى الوقفيةِ، وآلافَ العقاراتِ والمنشآتِ المتنوعةِ. ومع ذلكَ، فإنَّ عوائدَ هذا الوقفِ لا تزالُ أقلَّ بكثيرٍ من إمكاناتِهِ الحقيقيةِ، وسطَ غيابِ منظومةِ إدارةٍ احترافيةٍ، ومراقبةٍ صارمةٍ، ورؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ.
الوقفُ ليسَ فقطْ صدقةً جاريةً، إنَّهُ مشروعُ دولةٍ، وتفعيلُ الوقفِ الخيريِّ يمكنُ أنْ يوفرَ تمويلًا مستدامًا للمدارسِ، والمستشفياتِ، ودورِ رعايةِ الأيتامِ والمسنينَ، ويُخففُ العبءَ عن الموازنةِ العامةِ. لماذا لا تتبنى الدولةُ استراتيجيةً شاملةً لاستخدامِ الوقفِ فى دعمِ منظوماتِ الصحةِ والتعليمِ ومكافحةِ الفقرِ؟ لماذا لا يتمُّ تخصيصُ أوقافٍ لدعمِ المرأةِ المعيلةِ، أو تمويلِ مشاريعِ تشغيلِ الشبابِ فى القرى الأكثرِ فقرًا؟
وحتى لا يتحولَ الوقفُ إلى بابٍ خلفيٍّ للفسادِ أو إهدارِ المالِ العامِّ، لا بدَّ من إخضاعِهِ لرقابةٍ قضائيةٍ وماليةٍ صارمةٍ. الرقابةُ البرلمانيةُ، وتقاريرُ الجهازِ المركزيِّ للمحاسباتِ، ولجانُ الشفافيةِ داخلَ وزارةِ الأوقافِ يجبُ أنْ تكونَ جزءًا أصيلًا من منظومةِ إدارتِهِ.
فى تركيا، تُدارُ الأوقافُ عبرَ هيئةٍ مستقلةٍ، تخضعُ لمعاييرِ الحوكمةِ والشفافيةِ وتشاركُ فى تمويلِ آلافِ المشروعاتِ الخدميةِ. وفى ماليزيا، ساهمَ الوقفُ فى بناءِ جامعاتٍ ومراكزِ أبحاثٍ، ومشاريعِ إسكانٍ تنمويٍّ. فهل نتعلمُ من هذهِ النماذجِ ونُفعّلُ الوقفَ المصريَّ بنفسِ القوةِ والطموحِ؟
الكرةُ الآنَ فى ملعبِ الدولةِ، فالمواطنونَ مستعدونَ للتبرعِ، لكنهم يريدونَ ثقةً، ورؤيةً، وشفافيةً. الدولةُ تمتلكُ المقوماتِ، لكنْ عليها أنْ تُطلقَ يدَ الرقابةِ، وتُغلقَ أبوابَ الفسادِ، وتُحوّلَ الوقفَ من مجردِ سجلٍّ عقاريٍّ إلى ذراعٍ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ يُحدثُ فرقًا حقيقيًّا.