من بيلاروسيا المحروقة إلى غزة المحاصرة.. التاريخ يصرخ: لا لتكرار المجازر!”

في ليلة جمعت بين الفن والتاريخ والدبلوماسية، احتضنت سينما “الهناجر” بدار الأوبرا المصرية عرضًا سينمائيًا استثنائيًا للفيلم “تعال وشاهد” (1985)، بمناسبة الذكرى الثمانين لهزيمة ألمانيا النازية، بتنظيم من سفارتي روسيا الاتحادية وبيلاروسيا في مصر.
يعد الفيلم من أشهر الأعمال السينمائية التي كشفت وحشية الاحتلال النازي في بيلاروسيا، تحول إلى جسرٍ بين أجيالٍ تسمع عن الحرب، وأخرى عاشت فصولها الدامية.
في الوقت الذي كانت فيه سينما الهناجر المصرية تستدعي ذكريات دموية تجسد فظائع النازية في بيلاروسيا، تبث شاشات العالم مشاهد حية من فلسطين، حيث تستمر آلة القتل الإسرائيلية في سحق المدنيين وإبادة أسر فلسطينة بأكملها من السجلات المدنية.
المشهدان، رغم تباعدهما الزمني والمكاني، إلا أنهما يُلامسان سؤالًا واحدًا: هل تعلم الإنسانية من ماضيها أم أن الجرائم تعاد إنتاجها بلغات جديدة؟
“الجحيم البشري” ماضي وحاضر
تدور أحداث الفيلم لعام 1943، حيث يتحول بطل الفيلم فلورا، الفتى البيلاروسي ذو الـ14 عامًا، من مراهقٍ يحلم بالانضمام للمقاومة إلى شاهدٍ على مجازر جماعية نفذتها قوات هتلر النازية، في رحلةٍ سينمائية قاسية تخلط بين الواقعية الصادمة والرمزية المؤلمة.
المشاهدون الذين ضمّوا دبلوماسيين وممثلي وزارات مصرية وبرلمانيين وإعلاميين، وصفوا العمل بأنه “ضربة مباشرة إلى الضمير الإنساني ..ليجسد الجحيم على الأرض حيث يتم قتل وحرق الأسر والقرى التي تجازوت ٦٠٠ قرية في بيلاروسيا “
لم يكن الفيلم مجرد حكاية عن مذبحة قرية في أربعينيات القرن الماضي، بل هو مرآة لمأساة إنسانية تتكرر اليوم في غزة ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين، حيث الأطفال – كـ”فلورا” بطل الفيلم – يفقدون طفولتهم بين أنقاض المنازل، والمدنيون يبادون بأسلحة متطورة تذكرنا بـ”قوات العقاب” النازية.
الكاميرا سلاحا ضد الصمت
في الفيلم، يظهر النازيون سياسة “الأرض المحروقة” لطمس الهوية البيلاروسية ومحاربة الشيوعية. بالمقابل تمارس إسرائيل منذ 1967 سياسة التهجير القسري و هدم المنازل في الضفة الغربية وغزة، حيث دمرت أكثر من 50,000 منزل فلسطيني، وشردت آلاف العائلات لصالح توسيع المستوطنات غير القانونية .
كما يعتبر الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة شكلاً من العقاب الجماعي، يحول القطاع إلى “سجن مفتوح” تتفاقم فيه الأزمات الإنسانية .
في فيلم “تعال وشاهد”، كانت الكاميرا شاهدة على الجرائم، مثلما تتحول كاميرات الهواتف اليوم في غزة إلى أرشيف حي لوحشية الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحصد أرواح الآلاف من الفلسطينيين، بينهم مئات الأطفال، تحت عتمة صمت دولي.
اللقطات الأرشيفية لضحايا النازية التي عرضت في مسرح الهناجر بالقاهرة من جماجم بشرية وقرى محروقة ، لا تختلف كثيرًا عن صور أشلاء الضحايا في غزة وخان يونس، التي يتناقلها النشطاء على منصات التواصل.
رسالة لمن ينسون التضحيات
أكد مسؤولين في السفارة أن الهدف ليس استحضار الماضي فحسب، بل “تذكير العالم بأن النصر على النازية كتب بدماء ملايين من أبناء الاتحاد السوفيتي، ومنهم البيلاروسيون الذين فقدوا ثلث سكانهم في الحرب”.
وبمقارنة اليوم بالأمس، نري “النازية الجديدة” ترتدي زي جندي إسرائيلي يهدم منزلًا فوق سكانه، أو مستوطنًا يحرق حقول الفلسطينيين تحت حراسة الجيش.
أحد أبرز تعليقات الحضور في مسرح الهناجر بدار الأوبرا كان: “لم نكن نعرف حجم المأساة”، وهو ذات الاعتراف الذي يردده ملايين البشر اليوم وهم يشاهدون جرائم الحرب الإسرائيلية دون تحرك فعلي.
الفرق هنا أن الضحايا البيلاروسيين دخلوا التاريخ بفضل فيلم سينمائي مدعوم من دول عظمى، بينما الشهداء الفلسطينيين تصنفهم إسرائيل والحكومات الصديقة لها بأنهم “إرهابيين” أو “ضحايا “، في عملية تشويه منهجية للواقع .
بعد انتهاء الفيلم، انتقل الحضور إلى معرضٍ مصاحبٍ وثّق بالصور الأرشيفية النادرة “فظائع الجيش النازي” في القرى البيلاروسية، جنبًا إلى جنبٍ مع لقطاتٍ لتحرير المدن الأوروبية على يد الجيش الأحمر، واحتفالات موسكو بالنصر. الصور التي عرضت أطفالًا ونساءً في معسكرات الاعتقال، وكتائب الجنود السوفيت وهم يعبرون نهر السبري نحو برلين.
ومن ضمن تفاعلات الحضور، قال أحدهم “لم نكن نعرف.. لم نكن نتخيل” وسط دموعٍ خفية ووجوهٍ شاحبة، علقت الطالب اسماء دارسة اللغة الروسية بجامعة القاهرة: “الفيلم جعلني أدرك أن ما نعرفه عن الحرب مجرد كلمات في كتب.. هذه المشاهد مرعبة، لكنها ضرورية”. بينما قال علي عبد الودود مقرر اللجنة الخارجية بحزب تواصل “هذا الفيلم يجب أن يعرض في كل المدارس.. الحرب لا تبني أممًا، بل تذبح أحلامًا”.
السينما والذاكرة التاريخية
في حين يرى محللون سياسيون أن الحدث يأتي في سياق دبلوماسي موسع لروسيا وبيلاروسيا لتعزيز دورهما كـ “حماة الذاكرة التاريخية” أمام تحالفات غربية تتصاعد فيها الدعوات لتهميش دور الاتحاد السوفيتي السابق في الحرب.
عندما قال المخرج البيلاروسي إيلم كليموف إنه صنع فيلمه لـ”إجبار العالم على النظر إلى الوحشية”، كان يؤمن بأن المشاهدة خطوة نحو العدالة.
لكن فلسطين، التي تبث جراحها على الهواء مباشرةً، تثبت أن المشاهدة وحدها لا توقف البندقية. السؤال المؤلم : لماذا نستنكر جرائم الأمس بصوت عالٍ، بينما جرائم اليوم تكافىء بالصمت أو بالدعم؟
الذكرى الـ80 للنصر على النازية ليست احتفالًا بانتصار الماضي، بل اختبارًا لأخلاق الحاضر. فكما أن إنكار الهولوكوست جريمة، فإن تغييب جرائم الاحتلال الإسرائيلي عن النقاش العالمي جريمة موازية.

