الملايين للاعبين والأوجاع للغلابة

يا دولة… ارحموا الشباب، ارحموا الكبار والصغار، الصبيان والبنات، العاقل والمجنون، من تلك الأرقام الفلكية التى تُعلن كل ساعة مقابل انضمام لاعب إلى نادٍ كبير، كأننا نعيش فى كوكب آخر، لا يعرف الفقر ولا الجوع ولا الألم.
فى بلد تتألم فيه أم لعدم قدرتها على شراء دواء لطفلها، ويُحرم فيه مريض من إجراء عملية جراحية بسبب عجزه عن دفع تكاليف العلاج، تُعلن صفقات بعشرات الملايين، تُصرف على لاعب لا يجيد حتى نطق جملة مفيدة أمام الكاميرا، ولا يعرف من قيمة القميص الذى يرتديه سوى ما يُكتب له فى عقود الرعاية والإعلانات.
هل يعقل أن يصل راتب لاعب كرة قدم إلى ملايين الجنيهات، فى حين أن طبيبًا ينقذ الأرواح لا يحصل على عشر هذا الرقم؟ ومدرس يحارب الجهل لا يجد ما يعينه على الحياة، وصحفى يدافع عن الحقوق بينما حقوقه مهدرة؟ هل من المنطقى أن تُخصص ملايين من ميزانيات الأندية، التى تموَّل أحيانًا من جهات شبه رسمية أو شركات وطنية، بينما الجامعات تفتقر للمعدات، والمستشفيات تئن تحت وطأة الإهمال؟
ليست المشكلة فى أن يُكافأ المجتهد، أو أن تُمنح الرياضة ما تستحقه من دعم، بل الكارثة فى أن تتحول كرة القدم من لعبة جماهيرية إلى بورصة لا تعرف الرحمة، تُباع فيها القيم، وتُشترى فيها الشهرة، ويُهمَّش فيها العقل والمنطق.
إن الإعلام الرياضى أيضًا شريك فى هذه المهزلة، حين يُهلل لصفقة هنا، ويصفق لانتقال هناك، كأننا أمام نصر سياسى أو إنجاز علمي، بينما الحقيقة أننا نعيش داخل فقاعة كبيرة، تخدِّر الناس، وتمنحهم الوهم، وتبيع لهم السراب.
من حق أى لاعب أن يحلم بالنجاح، ومن حق أى نادٍ أن يبحث عن التميز، ولكن ليس من حق أحد أن يهدر المال العام، أو يستهين بمشاعر شعب بأكمله يُعانى. ليس من العدل أن يُرفع لاعب على الأعناق لأنه سجل هدفًا، بينما يُدفن العشرات من المبدعين فى صمت، لأنهم لم يحققوا «تريندًا».
الكرة لعبة، ومن الخطأ أن تتحول إلى صناعة تُدار بمنطق السوق فقط، بلا رقيب أو ضمير. يجب أن يكون هناك حد أقصى للرواتب، وآلية شفافة للإنفاق، ورقابة على العقود والإعلانات، بل يجب مساءلة من يوافق على صرف ملايين الجنيهات فى زمن الأزمة، كأننا فى رخاء دائم.
أفيقوا، فالجماهير بدأت تدرك الفجوة الهائلة بين ما يُقال وما يُعاش، وبين ما يُدفع للاعب، وما يُمنح للعامل، وبين كرة القدم كرياضة، وكرة القدم كسلعة.
لن تنجح أمة تقدّم الترفيه على التعليم، ولا يمكن أن نتطور ونحن نشترى الأقدام وننسى العقول.
عندما تُهدر الملايين على لاعب، بينما رجل يحال إلى المعاش لا يجد ثمن العلاج، فإن «حسبنا الله ونعم الوكيل» تصبح لسان حال أمة بأكملها.