»اﻟﻮﻓﺪ« ﺗﺮﺻﺪ أﺳﺮار اﻟﻠﺤﻈﺎت اﻷﺧﻴﺮة ﻓﻰ ﺣﻴﺎة أﺣﻤﺪ ﻣﻨﺼﻮر

أُحرق حيًّا أمام عيون العالمالاحتلال الإسرائيلى اغتاله حرقًا.. والعالم قتله صمتًاأسرار اللحظات الأخيرة فى حياة شهيد الحقيقة أحمد منصور«تواصل» تنفرد برواية العائلة:والدته: كانت آخر كلماته «سامحينى يامّا».. وأطالب بتحقيق دولى فى حرق ابنىزوجته: زوجى حُرق حيًّا أمام الكاميرا.. أين الإنسانية؟!ابنه يسأل: «مين هيعطينا المصروف بعد بابا؟»ابنته: «متى يوم القيامة عشان أشوف بابا؟»
فى لحظةٍ لا تُنسى، رأى العالم صحفيًّا يحترق حيًا على طاولة «الحق» بنارٍ أشعلتها يد الاحتلال وغذّتها خيانة الصمت، رحل الصحفى «أحمد منصور» – الذى استشهد جراء قصف خيمة الصحفيين قرب مجمع ناصر الطبى بخان يونس جنوبى قطاع غزة – كمَن يُؤدى طقوس الشهادة فى مِحراب الوطن.
احترق الجسد ووُلدت الصورة من وسط النار، ووثّقت العدسات نهاية أراد لها الاحتلال أن تكون صامتة، فإذا بها تصرخ وتَنخز فى سُويداءِ القلب.
وبِصَمته المسموع، أخبر «أحمد» العالم بكل شىء، لم ينقل الحدث تلك المرة بل كان جزءًا منه، وكشف اللثام عن بشاعة احتلال يمكنه أن يُدكّ شعبًا كاملًا فلا يبالى فى أى واد هلكٍ، فيقتل ويحرق ويُفجّر ويأسر ويهدم البنيان لبنة لبنة.. ولات ساعة ترميم!
ارتقى كـ قُبلة على جبين الحقيقة فكتبها بأدواته البسيطة؛ قلمٌ لم يسعفه الوقت ليُكمل به جملته الأخيرة، و«لاب توب» بالكاد يقاوم بضوئه ظلام حربٍ خاضها بدمه وألمه وأحلامه، حملته نيران الاحتلال إلى السماء بعد أن التهمت جسده ببطء كأنها تنتقم من كل حرفٍ كتبه، وتركت لأسرته جُرحًا لا يبرأ وصورة «شهيد مُحترق» أشدّ حرارةً عليهم من ألفِ صيف! ماتت فى جوفه الكلمات وخلف رسالة باقية لن تموت.
فى هذا الملف.. تُفتح دفاتر الحريق، تُروى القصة من قلب اللهب، تتحدث أسرته عن شهيدٍ لم تحرقه النار بل خلّدته.
«ابنى حلم بالشهادة ونالها.. بس النار ما بتنطفى بقلبى».. بهذه الكلمات بدأت الحاجة زهر عباس منصور، والدة الشهيد أحمد منصور، حديثها لـ«تواصل» قائلة: «قتلوا ابنى بدمٍ بارد، حرقوه وهو جالس على كرسيه، اشتعل جسده كله، حسبى الله ونعم الوكيل، يحرقهم زى ما حرقوه حيًّا، من يوم ما سمعت الخبر وأنا ما بنام، قلبى مو قادرة أطفّى النار اللى جواته.. بالبداية قرأت أخبار متداولة باستشهاد صحفى ما كنت أعرف صحتها لكن قلبى انقبض، اتصلت على أحمد، ما رد، راسلته كتبتله (الو) ما فى رد.. قلبى صار يغلى. أول مرة ما يرد علىّ، أول مرة ما يطمنّى. حسّيت إنه راح.. فجأة طار».
كانت كلماتها جمرًا وسردها مؤلمًا أشبه بجنازة صامتة وصوتها يرتجف مع كل جملة وهى تحكى عن آخر حديث جمعها بابنها ليلة استشهاده بعد صلاة المغرب: «قال لى: يامّا سامحينى، أنتِ قلبك كبير. رديت عليه: أنا مسامحة الكل، بس قلبى ما عاد يتحمل كل اللى بيصير. قلت له: سامح أنت.. قال لى: والله أنا مسامح الكل يامّا.. سألنى: خايفة؟ قلت: آه والله خايفة.. فقال لى: لا تخافى، يا ريت اأستشهد لأجل ما أدخل الجنة.. قلت له: سلامتك، ولادك محتاجينك. كان دايمًا يدعى: «يا رب أموت شهيد».. طلبها ونالها حبيبى كان قلبه حاسس!».
«كان كل يوم يبوس إيدى واليوم غاب للأبد».. بقلب مكسور يئِن بلا صوت واصلت «أم الشهيد» حديثها وكأنها تحتضن قبرًا غائبًا وتُقبل نارًا لا تبرد قائلة: «عرفت إن الصحفيين انضربوا، قلبى انقبض فدخلت على زوجته «أم وسام» سألتها أحمد معهم؟ قالت لى: «أيوه» رُحت على المستشفى.. حكوا لى إن إصابته خفيفة كذبوا على مرة يحكوا لى إنها حروق من الدرجة الأولى ومرة يحكوا إنها من الدرجة الرابعة.. أنا ما احتجت طبيب يشرح لى، شفت ابنى ووجهه ميّت لكن فيه نفَس، غِبت عن الدنيا من الصدمة أعطونى حقن مهدئة، لما صحيت اتصلت على حفيدتى تصرخ: أحمد استشهد.. قلت لها: من وين جبتى الخبر! فردت: من الأخبار.. على الفور سكّرت الخط، واتصلت على جارنا ممرض سهران مع أحمد بالمستشفى، ما رضى يحكى. فقط حكى: ابنك حميدو عندك؟ حكى معه كلمتين فقط، بعدها سألته، قال لى: آه.. أحمد استشهد».
تطرقت «الأم الثكلى» فى حديثها إلى لحظة أخرى لا تقل وجعًا قائلة: ابنه وسام، بالصف الثالث، يسأل عمته: «مين بيفزعلى لو ضربونى؟ ومين بيعطينى مصروفى؟.. بابا مات.. ردت عليه: «أنا بعطيك المصروف».. غالبت الأم وجعها لتحكى عن طيبة ابنها الشهيد قائلة: «كان ييجى كل يوم، يبوس إيدى وراسى.. كل يوم. حتى لو عليه شغل، ييجى العصر.. الله يرحمه، كان حنونًا، طيبًا.. الكل بحبه».
اختتمت «والدة الشهيد أحمد منصور» حديثها بنداء مؤلم للضمير الإنسانى قائلة: «بطالب بحق ابنى أحمد من كل العالم.. من كل حقوق الإنسان، ابنى انحرق قدام عيونى وهو حى؟». وأعربت الأم عن إصرارها على مطلبها قائلة: «نطالب بتحقيق دولى فى واقعة حرق ابنى الصحفى أحمد منصور».
وداع مصوّر
وقالت «فداء إبراهيم» زوجة الشهيد أحمد منصور لـ«تواصل» بعبارات متقطعة وكأن الكلمات تتلعثم فى حلقها قائلة: «أحمد استشهد حرقًا بجريمة بشعة، استشهد وما قدر يهرب ولا حتى يصرخ. شاهدت الفيديو المنتشر بعدين فى اليوم التالى، لم أره وقتها لأننى كنت بالمستشفى، حينما شاهدته قلبى انكسر.. صرت أبكى وأنا أحكى مع الشاشة، أحكى له كأنه يسمعنى: «يا أحمد اتحرك، اهرب، ساعد حالك، لا تستسلم.. أنا محتاجاك».. لكنه ما سمعنى! أنا بالآخر أحكى مع فيديو!.. حتى اللحظة لم أصدق خبر استشهاده، ولم تغب عن بالى صورته وهو محروق للحظة، وأشكر الصحفى الذى حاول مساعدة أحمد وانتشاله من الحريق على مساعدته، تمنيّت لو ساعده الجميع بدلًا من تصويره ليضل عايش معنا لكنها مشيئة الله».
«تقتلنى أسئلة الأولاد عن أبيهم».. بكلمات تخرج من عمق الجرح الذى لم يندمل بعد، اختتمت «زوجة الشهيد» حديثها قائلة: «ولادى صغار، وما بيعرفوا شىء عن الحياة غير إنه «بابا مش هون». أحمد سمّى ابنه الصغير «سلام»، لأنه كان يتمنى يحل السلام بغزة، كان يحلم بحياة آمنة لأولاده، لكنه استشهد قبل ما ييجى السلام! وسام ابنى الكبير يحكى لى: «ماما، بابا وين؟ اشتقتلُه بدى أشوفه»، وبنته تسألنى: «متى يوم القيامة عشان أشوف بابا؟». وأنا شو بدى أجاوبهم؟ بقول لهم: «بابا فى الجنة شهيد بيشوفكم من فوق، بس ما بده يشوفكم زعلانين هو بزعل لزعلكم، ولما تضحكوا هو بيفرح».. كل ما تشتاقوا له اقرأوا له الفاتحة وادعوا له واطلبوا من الله يوريكم إياه بالحلم».
فقدٌ بلا عزاء
«قال لى خلى بالك من نفسك وانتبه لعلاجك.. ماكنتش أعرف إنها آخر وصية».. بهذه الكلمات بدأ محمد منصور، شقيق الشهيد الصحفى أحمد منصور، حديثه قائلًا: «لم يوجعنى السرطان بقدر ما أوجعنى فراق أخى حتى دون وداع، وكأن كل الأوجاع اجتمعت معًا على الغربة والمرض والفقد، فقد خرجت من غزة للعلاج من السرطان فى المدينة الإنسانية بالإمارات قبل أسبوع واحد من استشهاد أحمد، وفى لحظة وداعه لى قال: «خذنى معك يا شريك» – كان دائمًا ينادينى بـ«أبو شريك» بلهجته البدوية المحببة – أجبته بحزن: «والله يا ريت أقدر آخذك، أنت وكل العيلة، بس تخلص الحرب ونرجع على خانيونس بلدنا اللى انولدنا فيها».. أحمد كان الضحوك فينا، الاجتماعى الذى يخلق الابتسامة من العدم، كان رجلًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يخدم الغريب قبل القريب بصدر رحب».
سرد «محمد» تفاصيل المكالمة الأخيرة التى دارت بينه وبين شقيقه قائلًا: «فى الليلة الأخيرة قبل استشهاده كلّمنى بعد منتصف الليل، فتح مكالمة فيديو، كان يحتضن أطفاله الثلاثة على السرير، وأنا كذلك كنت مع أطفالى؛ ضحكنا، تحدثنا، تكلمنا ساعة كاملة، لم أكن أعلم أنها ستكون آخر ساعة!.. وفى اليوم التالى حوالى الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، قُصف أحمد بصواريخ الطيران الإسرائيلى، بينما كان فى خيمة أقامها مع زملائه الصحفيين بعد أن دُمّر مكتبهم، ليكملوا منها نقل الحقيقة، كنت ساهرًا فى غرفتى بالإمارات، عندما سمعت الخبر من زوجتى التى حاولت إخفاءه عنى، قالت لى فى الساعة الثالثة إن أختى أخبرتها بأن أحمد «احترق نتيجة القصف».. حينها ما كنت أتخيل حجم الفاجعة ولم أبكِ، فقط قُلت: «ربنا يرحمه»؛ لأنى كنت أتوقع استشهاد أحد من أسرتى بغزة فى ظل الحرب، لكن عندما رأيت الفيديو.. رأيت أحمد حيًّا، يحترق أمام الكاميرات لمدة أربع دقائق كاملة، يصرخ بصوت مخنوق، ينظر برجاء لزملائه أن ينقذوه، لكنهم لم يستطيعوا الاقتراب من شدة ألسنة النار، فقط عبد شعت، تجرأ وسحبه، وعندما سألته قال: لو اللى كانوا بيصوروا ساعدونى بدل التصوير، كنا أنقذنا أحمد.. ولكنها إرادة الله».
وتابع: «مشهد احتراقه حيًا على طاولة العمل ذبحنى. لم أعد أحتمل حينها نُقلت إلى المستشفى، تلك اللحظة دمرتنى تمامًا، كانت الصدمة كبيرة، فأخى أحمد ليس أول من فقدته من إخوتى، قبله رحل فادى، كنا ستة إخوة شباب، واليوم صِرنا أربعة.. أحمد ترك خلفه ثلاثة أطفال «وسام وشام وسلام».. سمّى طفله الأخير «سلام» -والذى وُلد بالحرب- وقال لى: «سميته هيك لأجل ما ييجى معه السلام ويحل بغزة»، وكان وضعه المادى صعبًا، يسكن مع عائلته فى غرفة واحدة من بيت مغطى بالاسبست، وفى بداية الحرب قُصف البيت، واليوم أهلى يعيشون على الرصيف داخل خيمة صغيرة لا تسعهم جميعًا؛ فالحى صار ركامًا ولم يتبق من الذكريات سوى الألم.
وأضاف: «بعد استشهاده، لم نستطع إقامة عزاء له فى غزة.. لا مكان ولا أمان ولا تجمعات خوفًا من القصف، فقررت أن أفتح عزاء له هنا فى الإمارات -رغم أننى لا أعرف أحدًا- فكانت المفاجأة أن الناس تدفّقت من كل مكان، فلسطينيون، إماراتيون، غرباء أصبحوا إخوة فى لحظة حزن.. أحمد قال لى فى آخر رسالة: «دير بالك على حالك، وفكر بولادك، واتعالج، وظبط أمورك، بعدين بترجع». وقال لأختى أمانى: «الراحة فى الموت.. الواحد لازم يعمل خير كتير وشر قليل، عشان تكون الخاتمة تليق بالنهاية»؛ إسرائيل أرادت إسكات صوت الحقيقة، لكنها لم تعلم أن أحمد صار أيقونة لكل صحفى يرفض الصمت، ويؤمن أن الحبر أنقى من الدم، رغم أنهما الآن خُلطا معًا!»..
شهيد الكلمة
أعرب سامى منصور، شقيق الصحفى الشهيد أحمد منصور، خلال حديثه لـ«تواصل»، عن إصراره على استكمال ما بدأه شقيقه قائلًا: «أتمنى أن أواصل مسيرة أخى فى الصحافة حتى لا تنقطع كلمة الحق ويصل المشهد من غزة إلى كل العالم».
وأضاف: «تلقينا خبر استهداف طيران الاحتلال خيمة للصحفيين على مدخل مستشفى ناصر قرابة الساعة الواحدة والثلث بعد منتصف الليل، شعرنا بخوف شديد لأن تلك الخيمة كان أحمد يقضى عمله فيها فى دوامه اليومى، لكننا لم نتوقع أن يكون أحمد متواجدًا لهذه الساعة المتأخرة من الليل فى العمل؛ لأن عمله كان ينتهى قبل منتصف الليلة بساعة، لكن رويدًا رويدًا بدأت منصات التواصل الاجتماعى تضج بصور شاب تشتعل فيه النيران وتبدو عليه ملامح أخى أحمد خاصة الطول، حينها مباشرة اتصلت عليه لكن دون جدوى، فى الوقت نفسه تواصلت معى شقيقتى وأبلغتنى أنها حاولت الاتصال به لكنه كان يعطيها إشارة مشغول – أى أنه تم إنهاء الاتصال الوارد إلى هاتفه – حينها بدأ الخوف الشديد ينتاب أفراد العائلة، فقمنا بالذهاب مشيًا على الأقدام إلى المستشفى، طبعًا الخروج فى مثل ذلك الوقت مرعب، ظلام دامس، أصوات طائرات الاستطلاع مخيفة جدًا حتى وصلنا إلى المستشفى، حينها كانت الصدمة! كان أحمد متواجدًا فى غرفة العناية المكثفة بقسم الطوارئ بمستشفى ناصر الطبى، فى بداية الأمر منعنى الأطباء من الدخول نظرًا لحالته الخطيرة، وبعد محاولات عدة تمكنت من الدخول للغرفة والنظر إلى مشهد لم أتخيل أننى سأشاهده فى حياتى!».
استكمل «سامى» حديثه: «رأيت أخى وهو محترق بشكل كبير فى الجهة اليمنى من الجسم من أظفاره حتى رأسه.. بعد دقائق تم نقله فى الطابق الثالث للمستشفى فى قسم العناية المتوسطة، ووضعوه على جهاز التنفس الاصطناعى، وأبلغنا الأطباء أن حالته حرجة جدًا؛ لتعرضه لحروق شديدة فى الوجه والرقبة واحتراق رئة واحدة، واستمرت حالته هكذا إلى أن استشهد، حينها أفصح الأطباء أن أحمد أصيب بإصابة قاتلة فى المخ حيث تعرض لشظية وصلت إلى عصب المخ وأحدثت شللًا نصفيًا فى الجهة اليمنى من جسمه، ودعناه دون ما نرى وجهه، فى ثلاجة الموتى الجثمان كان مغطى بالكامل بـ«الكيس» لم نرَ وجهه وهو شهيد مثل بقية الشهداء، حتى بالعناية بمستشفى ناصر كان وجهه مغطى بالشاش، تمنيت لو رأيت وجهه وألقيت عليه النظرة الأخيرة مهما كان وضعه».
كشف «شقيق الشهيد» عمّا قاساه خلال الجنازة قائلًا: «كانت لحظات توديع أحمد قاسية جدًا لذلك عندما أخرجوه للدفن تعرضت للإغماء لعدم تحملى الموقف، حتى هذه اللحظة أشعر أننى فى حلم لأن ما حدث يفوق تصور العقل، حاولت المشاركة فى حمل جثمانه لكن لم تسعفنى قوتى على حمله إلا للحظات بسيطة لأننى كنت فى حالة صدمة كبيرة، أكثر شىء أثر فى هو أننى فقدته للأبد.. لن أراه بعد اليوم، لن أسمع صوته، لن نتشارك الطعام والأحاديث واللحظات السعيدة، وكذلك تأثرت لمشهد أطفاله وهم يبكون كان مشهدًا يفطر القلوب».
وعن تفاصيل اللقاء الأخير أشار: «قبل ذهابه لعمله فى تلك الليلة أوصانا بأن نبقى محبين لبعضنا ونسامح الجميع، وأتذكر قبل استشهاده بساعات قليلة أننى تواصلت معه لأسأله عن أصوات القصف المرعبة التى نسمعها فقال لى: «يبدو أنها ديناميت تستخدم لعمل نسف مبانٍ سكنية.. كل دقيقة تمر علينا يزداد فيها ألمنا لأننا نوقن أن «أحمد» رحل للأبد ولن يعود ونستذكر لحظات الحرق التى تعرض لها كيف أنها قاسية جدًا لا يمكن لعقل بشرى أن يستوعبها؛ مشهد حرقه بهذه الطريقة الوحشية كان له أثر كبير على الناس فى غزة كأن التأثر ظاهر على الناس بشكل كبير لأن المشهد قاسٍ جدًا لا يمكن لأحد تحمله؛ لم يأتِ أحد ليواسينا إلا ويبكى بحرقة على أحمد وما تعرض له، لقد احترق جسده أمام العالم وهو جالس على كرسى العمل لينقل الحقيقة جلسة صمود وشموخ».
أين الحماية؟
«ما ودّعت أحمد.. ما قلتله سلام ولا حضنته آخر حضن».. بهذه الكلمات بدأت «نسمة منصور» شقيقة الشهيد الصحفى «أحمد منصور» حديثها لـ«تواصل» كمَن تجرّ نفسها جرًّا من بين الرماد، بصوت أم احترقت بنار الفقد مرّتين جراء حرب لا ترحم صغيرًا ولا كبيرًا؛ أولهما بفراق طفلها الصغير وتلك المرة بفراق أخيها الذى احترق حيًّا أمام العدسات، قائلة: «ما قدرت أودّع أخى وقبله ابنى وجع ما له اسم، نار بالقلب ما بتنطفى، غصة ما بتنبلع».. وذلك لأنى أعالج ابنى الآخر المريض فى مستشفى إسرائيلى. فمنذ 3 سنوات وهو يصارع مرضًا نادرًا فى نخاع العظم وخللًا فى الجينات، أخى الشهيد أحمد كان يعرف حجم معاناتى ويُساندنى دائمًا، كان مهجة قلبى وصديقى الأقرب، كان يعشق التصوير وتوثيق اللحظات. آخر صورة أرسلها لى فى العيد كانت صورته بلبس العيد، وصورة أخرى مع ابنى الشهيد، وقال لى: «هنيّالك يا أم شهيد، اصبرى واحتسبى، مفتاح الجنة بإيدك وكلنا لهاد الطريق رايحين».
وتابعت: «ليلة استشهاده كنت أتابع الأخبار وقرأت: «استهداف خيمة الصحفيين».. دقّ قلبى. فورًا صرت أتصل فيه، أرسل له رسائل: «يا أحمد وينك؟ ليش ما بترد؟ طمّنّى».. ما كان يرد! قلب الأم والأخت ما بيكذب، حسّيت إنه فى شىء غير طبيعى.. اتصلت بأخى الثانى، قلت له: «وين أحمد؟ طمّنى عليه بالله». قال لى: «أحمد انحرق.. بالعناية المشددة، ادعيله».. شاهدت الفيديو مرارًا وتكرارًا، رغم قساوته، ما قدرت أغمض عيونى. ما حاولت أتجنبه، بالعكس، شاهدت كل لحظة فيه؛ «حتى ما ييجى يوم القيامة أكون شاهدة على التخاذل، شاهدة على الصمت، شاهدة على النار التى أكلت أخى قدّام عيونى».. أصعب لحظة لما رأيته يصرخ والنار مولّعة فيه وهو ثابت فوق «كرسى الحق»؛ كرسى الصحافة الذى صار سبب استهدافه، والوحيد اللى رمى الكاميرا وركض ليساعد، كان الصحفى عبد شعت. لكن الباقين كانوا يصوّرون المشهد! ندائى لهم: «الصحافة ضمير مش ترند، مش سبق صحفى، إنسانيتكم كانت لازم تهتز، كان لازم ترموا الكاميرا وتجروا تساعدوه، تصرخوا، تعملوا شىء.. اليوم ما بعرف ألوم الاستهداف، ولا ألوم الكاميرا اللى صوّرت وجع أخوى وهو بيحترق».
واختتمت: أحمد علّمنى فى موته: «الثبات» إنك تثبت على كلمة الحق حتى لو النار تحرقك، حتى لو الموت قدّامك.. يا تعيش حر يا تموت حر.