«جون لوك».. أول الفلاسفة التجريبيين

«جون لوك».. أول الفلاسفة التجريبيين

 

يعد جون لوك (1632 – 1704م) أول فيلسوف تجريبي في القرن السابع عشر، حيث قام بوضع حجر الأساس لبناء نسق معرفي في الفلسفة الإنجليزية، وقد نشأ الفيلسوف الإنجليزي نشأة تطهيرية على حب الحرية والفضيلة، ثم التحق بمدرسة وستمنستر في سن الرابعة عشرة، حيث درس بها الآداب الكلاسيكية واللغات القديمة، واستمر فيها حتى التحق بجامعة اكسفورد ثم عين مدرسًا لتدريس فلسفة الأخلاق. وماذا عن اهتمام جون لوك في مجال العلوم الطبيعية؟

عزيزي القارئ، اهتم لوك اهتمامًا كبيرًا بالتقدم الذي أحرزته العلوم الطبيعية في عصره وتعرف على روبرت بويل الذي تعلم منه أحدث المناهج في العلوم التجريبية، وقد تمكن لوك من الوقوف على الفلسفة الديكارتية باعتبارها فلسفة العصر المهيمنة على الفكر الأوروبي في ذلك الوقت. وكانت سنوات زاخرة بالنشاط الفكري والعمل السياسي، وكتب فيها لوك أهم أعماله: رسالتان في الحكومة المدينة عام 1680 م. وقد اعترض فيهما لوك على أنصار الحكم المطلق ونظرية الحق المقدس، ووضع تصورًا للعقد الاجتماعي مختلفًا عما ذهب إليه توماس هوبز من قبل، ونادى بفصل السلطات. 

ثم مقال عن التسامح 1689 م وقد دعا فيه لوك إلى حرية العقيدة على عكس هوبز ورفض تدخل الحكومة في الأمور الدينية إلا بقدر ضئيل كما حذر الكنيسة من إرغام الناس على ممارسة معتقدات خاصة. ثم أعد كتاب اعتبارات في نتائج تخفيض الفائدة وزيادة قيمة النقد وقد ساهم لوك من خلاله في تنظيم الحياة الاقتصادية في عصره. ثم نشر كتاب أفكار في التربية وقد دعى فيه لوك إلى تحرير تربية الأطفال من هيمنة الكنيسة والحكومة معًا وشجع على التعليم الخاص وإحلال اللغات الحديثة محل اللغات القديمة.

ثم نشر أروع كتبه الفلسفية مقال في الفهم الإنساني وهو ينقسم إلى أربعة أبواب حيث يتصدى الباب الأول لنقد نظرية الأفكار والمبادئ الفطرية. بينما يعرض الباب الثاني الأصول التي تنبع من أفكارنا، أي تحليل التجربة الحسية ورد الأفكار المركبة إلى أبسط عناصرها. ويختص الباب الثالث بالبحث في علاقة الفكر باللغة وتأثير الألفاظ في التفكير، وفى الباب الرابع والأخير يعنى لوك بتحديد الإطار العام للمعرفة.

لذلك حاول لوك في كتابه مقال في الفهم الإنساني تطبيق المنهج الاستقرائي على أصل المعرفة الانسانية. يرجع رفض لوك للمنهج القياسي إلى أنه منهج هابط من العام إلى الخاص، بينما المنهج الاستقرائي على العكس منهج صاعد يصعد من الخاص إلى العام. لذلك فالمنهج الأول في نظره يناسب الاتجاه العقلي الذي يضع أمامنا قضايا عامة مسلمًا بصحتها أو أحكاما أولية صادقة بذاتها، ويقيس بناءً عليها كل ما يصادفه من قضايا جزئية. بينما المنهج الثاني يناسب الاتجاه التجريبي العلمي الذي يبدأ بملاحظة الجزئيات، ويستنتج منها قوانين عامة تشملها وتنطبق عليها.

وقد استفاد جون لوك من التطور العلمي الهائل الذي كان يتمثل في أبحاث جاليليو ونيوتن، ولقد أخذ عن العلم الحديث، التفرقة بين الظواهر، كما هي في الأشياء الخارجة عن الانسان، أي المحسوسات وبين الظواهر كما تقع في إدراك الانسان أي الادراك الحسي عنها، أي الصفات الأولية كالحجم والشكل، والصفات الثانوية العرضية كالألوان والطعوم والروائح. وماذا عن موقفه اتجاه الأفكار الفطرية؟

صديقي القارئ، رفض لوك الأفكار الفطرية الموجودة في عقول الناس منذ القدم قائلًا إن مصدر المعرفة “لا يمكن أن يخرج عن الإحساس والتأمل الذاتي”. هكذا سلك لوك مسلكًا تحليلياً دقيقاً محاولاً أن يرد المعارف الانسانية إلى عناصرها الأولى ونشأة المعارف المختلفة عن الأفكار البسيطة.وقد اعتمد لوك على الملاحظة الداخلية التي هي ضرب من تفكير الإنسان فوضح كثيرًا من قوى النفس وظواهرها واستطاع بذلك أن يفصل الدراسة السيكولوجية عن البحوث الميتافيزيقية. ومن ثم يرجع الفضل إلى جون لوك في تطبيق المنهج التجريبي الاستقرائي، في مجال الفلسفة وبخاصة في نظرية المعرفة. على أن لوك لم يفطن إلى خصوبة المنهج الرياضي، ولم يستفد من نتائج دراسات ديكارت الرياضية.

وختامًا نجد صديقي القارئ، ترجع أهمية جون لوك في تاريخ الفلسفة إلى المنهج الذي استخدمه في بحثه لنظرية المعرفة، حيث اضطر بسبب اتجاهه التجريبي أن يستخدم في أبحاثه الفلسفية منهجًا غير المنهج القياسي الذي كان سائدًا في الفلسفة القديمة.

[email protected]