الغيطاني يكتب عن “رسول السينما”

“رسول السينما: سينما الأحلام والرؤى” هو عنوان الكتاب الجديد الصادر مُؤخرا للناقد السينمائي محمود الغيطاني، عن “بوملحة للنشر والتوزيع” في الإمارات العربية المُتحدة ضمن فعاليات معرض أبو ظبي الدولي للكتاب الذي ستبدأ دورته الجديدة في 26 من شهر إبريل الجاري.
صدر الكتاب في 485 صفحة من القطع الكبير، استمرارا لمشروع الغيطاني النقدي الذي يتناول مجموعة من المُخرجين المُتميزين من حول العالم بالنقد والتحليل، حيث ترك هؤلاء المُخرجين ببصماتهم الملموسة على صناعة السينما.
يتناول محمود الغيطاني في كتابه الرحلة الفنية والروحية للمُخرج الروسي “أندريه تاركوفسكي”، وهو من أهم المُخرجين من حول العالم الذي اتبع طريقة وأسلوبية خاصة في صناعة السينما- السينما البطيئة المُتأملة، الروحانية- مما جعله مثالا يُحتذى به في مجال صناعة السينما، ومن ثم اتبعه الكثيرون من المُخرجين من حول العالم باعتباره هو الأب الروحي للسينما البطيئة المُتأملة- أو السينما الشعرية كما كان يصفها المُخرج نفسه.
تميزت سينما تاركوفسكي بالخصوصية والفنية الفريدة؛ مما جعل العديد من المُخرجين المُهمين من حول العالم يشيدون بسينماه، لا سيما المُخرج السويدي، المُعاصر له Ingmar Bergman إنجمار بيرجمان الذي كان تربطه بتاركوفسكي الكثير من الروابط الفنية، والتقاطعات الأسلوبية، حتى أنه قال عن تاركوفسكي: عندما اكتشفت الأفلام الأولى لتاركوفسكي كانت مُعجزة. وجدت نفسي فجأة أمام باب لم يكن لدي مفتاحه من قبل. غرفة كنت أرغب دائما في اختراقها، حيث كان يشعر براحة تامة، لقد تمكن أحدهم من التعبير عما كنت أرغب دائما في قوله دون أن أعرف كيف. بالنسبة لي، تاركوفسكي هو أعظم مُخرج سينمائي.
كما ترك تاركوفسكي بأثره الفني والأسلوبي على العديد من المُخرجين البارزين من حول العالم- ليس في روسيا فقط- منهم المُخرج والسيناريست والمُنظر السينمائي الدانماركي Lars von Trier لارس فون ترير، صاحب مدرسة الدوجما السينمائية Dogme 95 التي اتبعها أيضا الكثيرون من المُخرجين من حول العالم، وكان ترير قد قال عن تاركوفسكي مُقدرا له: إنه شاهد فيلم “المرآة” لتاركوفسكي 20 مرة مُنذ عام 2003م على الأقل. وهي نفس المقولة التي صرح بها المُخرج التركي نوري بيلج جيلان في حديثه عن فيلم “المرآة” لتاركوفسكي: يعتبر هذا الفيلم هو أعظم فيلم تم إنتاجه على الإطلاق. يقول: لقد رأيت ذلك ربما 20 مرة.
كما لم يقتصر تأثير تاركوفسكي الفني- في مجال السينما- على ما سبق فقط، بل تعداه إلى أهم المُخرجين الروس المُجايلين لتاركوفسكي- كما يذكر الغيطاني- يتبدى لنا ذلك من حديث المُخرج الجورجي Sergei Paradjanov سيرجي باراجانوف الذي سبق له أن قال: لم أكن أعرف كيف أفعل أي شيء، ولم أكن لأفعل أي شيء لو لم يكن هناك شيء اسمه “طفولة إيفان”- وهو اسم الفيلم الأول لتاركوفسكي- مما يُدلل على أثر أفلام تاركوفسكي على غيره من المُخرجين.
يقول الغيطاني: إنها الأسلوبية التي اتبعها الكثيرون من المُخرجين فيما بعد، ولعلنا نذكر المُخرج المجري Béla Tarr بيلا تار الذي انتهج هذه الأسلوبية، بل وعمل على تطويرها إلى الحد الذي وصل فيه إلى محاولة تسكين الكاميرا والزمن تماما لفترات طويلة، حتى لقد باتت هذه الأسلوبية للسينما البطيئة مُرتبطة بتار أكثر من ارتباطها بأي مُخرج آخر- رغم الفارق الأيديولوجي العميق بين كل من المُخرجين؛ فتار مُلحد، مُظلم، غير مُؤمن بشيء اللهم إلا ضرورة زوال هذا العالم المُمتلئ بالشرور، والذي يجد الإنسان نفسه فيه وحيدا لا مجال لإنقاذه، شديد التشاؤم، كاره لتواجد البشر على ظهر هذا الكوكب، في مُقابل روحانية تاركوفسكي الإيمانية المُشرقة، وحبه العميق الذي يرغب في منحه للبشر من حوله من دون مُقابل، بل ومحاولة تحذيرهم الدائمة من النهاية البشعة التي من المُمكن أن تنال منهم إذا ما استمروا في الانسياق من خلف القيم المادية الاستهلاكية.
كما يؤكد الغيطاني بقوله: اعتمد تاركوفسكي في أسلوبيته السينمائية على المشاهد الطويلة، والكاميرا الكسولة التي تكتسب شخصيتها المُستقلة من طول تأملها، وامتلاكها لوجهة النظر، الكاميرا المطمئنة، غير المُتعجلة، الواثقة من أن جميع مُفردات الكادر بالضرورة لا بد لها أن تكون داخل إطارها، تحت نظرها ومُراقبتها، وبالتالي فكاميرته لا تتعجل إذا ما خرجت إحدى هذه المُفردات الفيلمية من إطارها، بل تظل ساكنة، هادئة، مُحدقة، مُنتظرة لعودة هذه المُفردات داخل إطار رؤيتها مرة أخرى، فالعالم الفيلمي بالكامل تحت سيطرتها، وسطوتها، ورؤيتها في نهاية الأمر.
هذه الأسلوبية السينمائية جعلت أفلام تاركوفسكي مُعبرة عن السينما البطيئة، وهي السينما المُتأملة في كل ما يحيط بها، غير المُتعجلة، السينما التي لا يعنيها الزمن الواقعي بقدر عنايتها بالزمن الفني، وهو ما يتناسب إلى حد بعيد مع رؤية المُخرج الفنية، بل والأيديولوجية الروحانية، فالإيمان يقتضي الكثير من التفكير والتأمل؛ لذا كانت الكاميرا لديه دائما في حالة من التأمل والتروي اللذين لا ينتهيان.
عُرف عن المُخرج الروسي ميله إلى أسلوبية الرحلة الإيمانية من أجل الوصول إلى المعنى الروحاني في الإنسان الذي استغرق في المعاني المادية، وهو ما كان يحذر منه المُخرج طوال الوقت، حيث كان يرى أن استغراق الإنسان في القيم المادية الاستهلاكية المُحيطة به ستؤدي به بالضرورة إلى دماره على المستوى النفسي، فضلا عن اتجاه الإنسان إلى كارثة لا بد أن تنال منه بخسارته لكل شيء؛ لذا رأينا العديد من الأفلام المُهتمة بهذا المفهوم، لا سيما فيلمه Stalker المُطارد 1979م الذي كان من أكثر أفلامه تعبيرية عن هذا المفهوم الروحاني الذي يعتنقه، كما سبق له أن قدم أكثر الأفلام أسلوبية وإيمانا بمفهوم الرحلة في فيلمه الثاني Andrei Rublev أندريه روبليف 1966م.
رأى تاركوفسكي في نفسه- كما يذكر المُؤلف- أنه نبي منوط به هداية البشر، وإعادتهم مرة أخرى إلى التعرف على ذواتهم، وروحانيتهم المُفتقدة، وفي هذا المعنى يكتب الغيطاني: إن مأساة المُخرج الحقيقية، وعذابه الدائم تمثلا في إيمانه، فلقد رأى تاركوفسكي أنه بمثابة نبي لا بد له من إيصال رسالته إلى البشرية قبل رحيله عنهم، تحذيرهم من انسياقهم واستغراقهم في المادية والابتعاد عن المعاني الروحانية، ضياع معنى الإنسانية داخل البشر بسبب هذه المادية والارتكان إليها كبديل للإيمان، وهو ما أدى إلى فقدان البشر لمعنى التواصل، والمشاعر الإنسانية، والحب، وغيره من القيم الروحانية، وانكفأ الإنسان على ذاته المشوهة بفعل المادية، وبالتالي بات يعاني طوال الوقت.
يتناول الغيطاني في كتابه “رسول السينما” سينما المُخرج مُقسما الكتاب إلى خمسة أبواب: في الباب الأول الذي كان بعنوان “مرآة النبوة المُتشظية” يتناول الناقد بالبحث والتحليل حياة المُخرج الروسي، والأسباب والظروف، والأيديولوجيات التي أدت إلى تكوينه السينمائي، ولجوئه إلى السينما من أجل التعبير من خلالها، ونظرته الروحانية الإيمانية العميقة للعالم، وما يدور فيه من اتجاه الجميع إلى القيم الاستهلاكية المادية، ونسيانهم لروحانياتهم، وأثر ذلك على المُجتمع من حوله، كما يتحدث في هذا الفصل عن تأثير المُخرج على تيار كبير من المُخرجين الذين اتبعوا أسلوبيته السينمائية، لا سيما في بطئها وتأملها، ولقطاته الطويلة المُتمهلة، وتتلمذ العديد من المُخرجين على يديه، إلى أن هاجر المُخرج من الاتحاد السوفيتي من دون رجعة بعدما تم التضييق عليه، واضطهاده، ومحاولة منع أفلامه بسبب اتجاهه الإيماني الذي يتناقض مع النزعة المادية للاتحاد السوفيتي السابق، وهي الهجرة التي أدت إلى موته في نهاية الأمر في فرنسا بعدما أُصيب بسرطان الرئة.
في الباب الثاني يتناول الناقد بالنقد والتحليل أفلام المُخرج الروائية الطويلة، وهي سبعة أفلام، بينما خصص الباب الثالث لفيلمه التليفزيوني الروائي الوحيد لصالح التليفزيون السوفيتي، وفي الباب الرابع تناول الناقد الفيلم الوثائقي الوحيد الذي أخرجه المُخرج، لينتهي بالباب الخامس الخاص بأفلام المُخرج الروائية القصيرة.
كتب الغيطاني في العديد من المجالات المُختلفة، حيث صدر له في مجال الرواية “كائن العزلة” 2006م، و”كادرات بصرية” 2011م، وهي الرواية التي فاز بجائزة ساويرس عنها في عام 2012م، كما كتب في مجال القصة القصيرة مجموعة “لحظات صالحة للقتل” 2008م، و”اللامُنتمي” 2018م.
في مجال النقد الأدبي كتب “زيف النقد ونقد الزيف: احتضار النقد العربي” 2017م، و”الفساد السياسي في الرواية المغاربية” 2018م، كما صدر له كتاب حوارات ثقافية بعنوان “جنة الممسوسين” 2018م.
أما في مجال النقد السينمائي فلقد كتب الغيطاني العديد من الكتب منها: “سينما الطريق: نماذج من السينما العربية” بالتعاون مع مجموعة من النقاد السينمائيين بإدراة الناقد صلاح سرميني 2007م، و”السينما النظيفة” 2010م، وغسان عبد الخالق: سيرة سينمائية” 2014م، و”صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م”، وهو المشروع الذي صدر منه جزآن حتى الآن في 2021م، ويُنتظر صدور ثلاثة أجزاء أخرى، و”سينما المشاعر المُنتهية الصلاحية: وونج كار واي” 2022م، و”Cinephilia الهوس بالسينما: لارس فون ترير” 2023م، و”فلسفة السينما: بيلا تار” 2024م.