من الأزمة إلى الاستقرار.. كيف حول البنك المركزي المصري سعر الصرف إلى أداة لامتصاص الصدمات؟

من الأزمة إلى الاستقرار.. كيف حول البنك المركزي المصري سعر الصرف إلى أداة لامتصاص الصدمات؟

في ظل التحديات الاقتصادية العالمية والمحلية التي واجهتها الدولة المصرية، نجح البنك المركزي المصري في تحويل أزمة العملة إلى فرصة لتعزيز استقرار الاقتصاد الكلي، مستخدمًا سعر الصرف كأداة فعالة لامتصاص الصدمات الخارجية والداخلية.

وهذا النجاح لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة استراتيجيات مرنة ومدروسة أثبتت جدواها في ظل ظروف اقتصادية معقدة.

وفي هذا التقرير، من بانكير، نستعرض كيف نجح البنك المركزي في استغلال أزمة العملة في جعل سعر الصرف أداة لامتصاص الصدمات؟.

نقص العملة وارتفاع الضغوط

ومنذ عام 2011، عانت مصر من نقص حاد في العملة الأجنبية نتيجة تراجع مصادرها الرئيسية مثل السياحة، الاستثمارات الأجنبية، وتحويلات المصريين بالخارج، وتفاقمت هذه الأزمة مع ارتفاع أسعار السلع والطاقة عالميًا، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية في 2007-2009، ثم الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في 2022، والتي أثرت على سلاسل الإمداد العالمية.

وكانت النتيجة ضغوطًا متزايدة على الجنيه المصري، وظهور سوق موازية “سوداء” للعملة دفعت أسعار الصرف إلى مستويات غير مسبوقة.

وواجه البنك المركزي المصري تحديًا كبيرًا: كيف يمكن الحفاظ على استقرار الاقتصاد مع تقليص الفجوة بين السوق الرسمية والموازية، وفي الوقت ذاته امتصاص الصدمات الناتجة عن التغيرات الخارجية؟.

التحول نحو مرونة سعر الصرف

وفي مارس 2022، اتخذ البنك المركزي قرارًا جريئًا بتحرير سعر الصرف جزئيًا، مصحوبًا برفع سعر الفائدة لأول مرة منذ 2017، وهذا القرا، الذي وصفته وكالة “بلومبرج” بأنه خطوة لامتصاص الصدمات العالمية، سمح للجنيه المصري بالانخفاض بشكل حاد مقابل الدولار، ليصل سعر الصرف إلى حوالي 17.40 جنيه للشراء و17.50 جنيه للبيع في ذلك الوقت، مقارنة بـ15.64 و15.74 جنيه سابقًا.

ولم يكن الهدف من هذا التحرك خفض قيمة الجنيه بحد ذاته، بل جعل سعر الصرف أداة مرنة تتكيف مع الضغوط الاقتصادية.

ولاحقًا، في مارس 2024، أكمل البنك المركزي هذه الاستراتيجية بالسماح بسعر صرف عادل ومرن بالكامل، وهو ما أدى إلى القضاء التام على السوق السوداء، وهذا التحول عزز ثقة السوق في الجنيه المصري، وساهم في استقرار سعر الصرف على المدى الطويل.

سعر الصرف 

سياسات نقدية مبتكرة كانت أدوات النجاح

ولم يعتمد البنك المركزي على تحرير سعر الصرف وحده، بل رافقه بمجموعة من السياسات النقدية الداعمة، ومنها رفع الاحتياطي النقدي الأجنبي إلى مستويات قياسية، وهذا الاحتياطي شكل درعًا واقيًا ضد الصدمات الخارجية، مثل تقلبات أسعار النفط أو انخفاض الإيرادات السياحية.

كما عمل البنك على تعزيز تدفقات النقد الأجنبي عبر قنوات رسمية، مثل تحويلات المصريين بالخارج التي شهدت زيادة ملحوظة، وعائدات قناة السويس، وهذه التدفقات ساعدت في توفير السيولة اللازمة لتلبية احتياجات السوق، مما قلل الاعتماد على السوق الموازية.

علاوة على ذلك، استخدم البنك أدوات احترازية لضبط التضخم، الذي كان يشكل تحديًا كبيرًا مع ارتفاع أسعار الواردات، ومن خلال رفع أسعار الفائدة بشكل تدريجي، تمكن البنك من السيطرة على التوقعات التضخمية، مما جعل سعر الصرف أداة فعالة ليس فقط لامتصاص الصدمات، بل أيضًا لدعم الاستقرار المالي.

استقرار اقتصادي وجذب استثمارات

والنتائج كانت ملموسة، حيث نجح البنك المركزي في تقليص الفجوة بين أسعار الصرف الرسمية وغير الرسمية، مما عزز الثقة في الاقتصاد المصري.

كما ساهم هذا الاستقرار في جذب الاستثمارات الأجنبية، حيث أصبحت مصر وجهة آمنة نسبيًا مقارنة بالأسواق الناشئة الأخرى التي عانت من تقلبات حادة.

وعلى الصعيد الداخلي، أسهم توفير العملة الأجنبية عبر القنوات الرسمية في تمويل مستلزمات الإنتاج، مما دعم النمو الاقتصادي وحافظ على استقرار أسعار السلع الأساسية إلى حد كبير، وهذا التوازن بين استقرار العملة ودعم النمو يعكس نجاح البنك المركزي في استغلال الأزمة لصالح الاقتصاد.

ورغم هذه الإنجازات، تبقى التحديات قائمة، حيث أن الاعتماد الكبير على الواردات يجعل الاقتصاد المصري عرضة للصدمات الخارجية المستقبلية، مثل ارتفاع أسعار الطاقة أو تراجع الطلب العالمي، كما أن الحفاظ على مرونة سعر الصرف يتطلب توازنًا دقيقًا لتجنب التضخم المفرط أو فقدان الثقة في العملة المحلية.

ويمثل نجاح البنك المركزي المصري نموذجًا يحتذى به لكيفية تحويل الأزمات إلى فرص، ومن خلال جعل سعر الصرف أداة مرنة لامتصاص الصدمات، تمكن البنك من حماية الاقتصاد الكلي وتعزيز قدرته التنافسية.

ومع استمرار التحديات العالمية، يبقى السؤال: هل ستستمر هذه الاستراتيجية في تحقيق النجاح في المستقبل؟، والإجابة تعتمد على قدرة البنك على التكيف مع المتغيرات الجديدة، لكن حتى الآن يبدو أن الدرس الأبرز هو أن المرونة قد تكون مفتاح الاستقرار في عالم مضطرب.