ما أهمية الدراسات النقدية المقارنة؟!

ما أهمية الدراسات النقدية المقارنة؟!

مذ كنا في مراحل تعليمنا المختلفة، سواء التعليم الإلزامي في مرحلته الأولى، الابتدائية، ثم الإعدادية، إلى أن وصلنا إلى مرحلة التأهيل للجامعة، مرحلة الثانوية.

وجرت عادة المعلمين الالتزام بنصوص المقررات الدراسية لا تقصيرا منهم، وإنما التزاما بالمناهج الدراسية المفروضة عليهم فرضا، ومن ثم مفروضة على التلاميذ.وحتى لا يتأخروا عن المقرر عليهم تدريسه في أسبوعهم، ومن هذا المنطلق، كنا نجد المعلم يبذل قصارى جهده مسابقا عدد دقائق الحصة خشية أن يدق جرس المدرسة معلنا انتهاءها ولم يكن قد انتهى من شرح درسه سواء في اللغة العربية أو المواد الاجتماعية أو الحساب أو العلوم، لدرجة أنهم كانوا يأخذون مستأذنين من مدرسين التربية البدنية (الألعاب)، ليأخذوا حصصهم حتى يعوضوا العجز في الراتب التدريسي الأسبوعي.إذا ما خرج أحدهم عن النص وترك الأسلوب التلقيني وراح مجودا قليلا حتى يوصل معلومة جيدة للتلاميذ أو يعطى فرصة للمناقشة وسؤال التلاميذ فيما أخذوه من مادة علمية.وهذا بدوره جد مهم لتنمية روح النقد عند التلاميذ، وكذلك تعويد التلاميذ على الجرأة والمواجهة وإبداء الرأي خصوصا عندما  يتعلق الأمر بموضوعات التعبير، فيما يخص المناسبات القومية والأعياد الرسمية، وكذلك في حصص التربية الفنية ، والتربية الموسيقية. فكان التلاميذ يعبرون عما يجيش بخواطرهم إن كتابة أو رسما أو غناءا بعدما يقوم المعلم بتوضيح المناسبة كانتصار أكتوبر أو عيد العمال، أو أعياد الربيع، أو شهر رمضان وعيد الأضحى، وأعياد الإخوة المسيحيين.ومن هنا راحت شخصية التلميذ تتكون، ليس هذا وحسب بل  يتم اكتشاف ما بداخله من مواهب كالكتابة القصصية أو الشعرية أو الكتابة الصحافية أو التمثيل أو الغناء والتلحين أو اكتشاف المواهب الرياضية في ما عرف بدوري المدارس، وفيما عرف بمسابقات أوائل الطلبة على مستوي الإدارات، ثم التصفيات على مستوى الجمهورية.كذلك الأمر بالنسبة لمسابقات القرآن الكريم وحفظ الأحاديث.فكانت النتيجة المذهلة ، تنمية الحس النقدي عند التلاميذ، ليس هذا وحسب بل وتنمية روح المقارنة بين الطلاب لمحاولة اكتشاف مواطن القوة لتزويدها، ومعرفة مواطن الخلل لمعالجتها عن طريق فصول التقوية التي كانت تعقد فى المدارس إن قبل طابور الصباح أو بعد انتهاء اليوم الدراسي.النتائج المتوقعة، مذهلة جدا ، فقد تخرج من عباءة هؤلاء المعلمين، ومن خلال مدارس الحكومة عمالقة صاروا قادة في كل مجالات الحياة، فى التعليم، فى السياسة، في العسكرية، في الاقتصاد، في القيادة والحوكمة.وهذا ما نصبو إليه فعلا، أن نعود سيرتنا الأولى في مسألة التعليم، ونعيد لمدارس الحكومة رونقها وبريقها.ولن يتم ذلك إلا بإخلاص النوايا وتغليب مصلحة الوطن على المصالح الشخصية، وأن يكون الجميع على قلب رجل واحد ، من السادة أصحاب القرار السياسي إلى أصغر عامل في هذه المؤسسات التعليمية. ثم أولياء الأمور، ضرورة ملحة أن يكونوا على قدر المسؤولية بأهمية التعليم وأن القيمة الحقيقية لتهذيب وتربية أولادهم لا تكون إلا من خلال تعليمهم لا أن يسعوا إلى تسريبهم من التعليم وتلك كارثة عظمى.وقد كتبت كثيرا عن أيديولوجيا النهوض بالتعليم الإلزامي، والتعليم الجامعي وما بعده، كتبت كمقالات كثيرة عن هذا الموضوع.إن الدراسات النقدية المقارنة، لا أقول في مجال تخصص الفلسفة فقط بل في كل مجالات التعليم سواء التعليم النظري أو التعليم العملي، تثري عقل الدارس وتجعله ذا شخصية مفكرة ناقدة متحررة من سيطرة الكلاسيكية التقليدية على فكره.فقد سئمنا القص واللصق، نريد فكرا ينم عن شخصية واعية واعدة تقول لنا ها نحن هنا موجودون، لنا فكرنا، نكتب بأسلوبنا، نقدم آراء، من الممكن أن تكون صائبة في موضوع ما أو قد تكون خاطئة، ليس هذا عيبا، وإنما العيب أن نتركة متقمصا النص قلبا وقالبا جملة وموضوعا لا يستطيع فكاكا عنه قيد أنملة أسيرا له مسبحا بحمده، يدور في فلكه معيدا صياغة عباراته هي هي لكن بطريقة أخرى.حتى النص ذاته سيقول له تحرر مني، أو في أضعف الإيمان اعمل عقلك في، ناقشني، انقدني، أريدك أن تفيد نفسك من خلالي، وتفيد واقعك الفكري الذي تحياه.لكن لا تتقمصني بالكلية، لا أرضى لك أن تكون تابعا خاضعا أو مقلدا تقليدا أعمى، فلكل عصر له متطلباته، وتقنياته، وحداثته، فمد يدك إلي ووظفني من خلال إعمال عقلك وقارني بنصوص الآخرين، سواء القدماء أو المعاصرين.المهم لا تتمركز وتتقوقع حولي، فلا يسعدني هذا، بل سعادتي أن تخدم بي ومن خلالي واقعك المعاصر، وهذا سيجعلني حركيا مستمرا مسايرا لواقعكم الذي تعيشونه، فإنه لا يمكن أن تتحقق معاصرة وحداثة عربية بالبقاء فى الماضي.وإنما لا أقول بالتحرر من الماضي ومن أصالتي، ولكن من خلال توظيفي مؤولا إياي لمعالجة قضاياكم، فقضاياكم كثيرة وعميقة وتحتاج إلى تضافر كل جهود المفكرين من خلال طرح مشاريع حضارية لاستشراف مستقبل أفضل.نعم قضايانا كثيرة في عالمنا العربي والإسلامي ، لدينا قضايا سياسية ، قضايا دينية ، قضايا اجتماعية، قضايا ثقافية ، كيف ننهض، كيف نقوم من جديد، كيف نتواءم مع التقدم التقني والتكنولوجي الذي فرض نفسه على الجميع.هل التقوقع حول ذواتنا والتسبيح بحمد ماضينا سيحقق لنا المعاصرة، أرى أن ذلك سيسحقنا حضاريا وقيميا وعلميا وثقافيا، وإنما ضرورة ملحة التفكير خارج الصندوق كثيرا، دونما إفراط أو تفريط دونما تخلي عن أصالتنا، ودونما انغماس بالكلية في كل ما يقدمه لنا الآخر، الغربي سواء المستشرقين.أو المتغربون، الذين عاشوا فى الغرب وتقمصوه بكل تفاصيله وعادوا محملين به.محاولين قدر طاقاتهم تطييقه على واقعنا العربي المعاصر.نعم لا نرفض ذلك، وإن ما نرفضه التقليد الأعمى، فما قامت حضارة على التقليد، فالتقليد معول هدم لا مقوم بناء.إنه زئير قلم يزأر من عرينه مدويا ليسمع الجميع، ليسمع قيادته السياسية، ليسمع المجتمع بكل طوائفه، ليسمع كل مؤسسات الدولة، إنه لن تقوم لنا قائمة ولن نواكب ركب التقدم والمدنية الحديثة إلا من خلال النهوض بالمواطن.ولا يكون النهوض بالمواطنين إلا من خلال تعليمهم، ولن يكون هناك تعليم حقيقي يقوم على التقليد الأعمى والرتابة.لذا أقول للمعلمين فى المدارس، أساتذة الجامعات علموا أولادكم النقد البناء الذي يبني شخصياتهم لا النقد الهدام، علموهم أن يقولوا رأيهم بأريحية ولا تقهروهم وتكبتوا فكرهم.ولكن أعطوهم الفرصة كاملة، خصصوا وقتا للمناقشات، اجعلوا محاضراتكم في مدرجات درسكم اجعلوها ندوات فكرية، لا تشرفوا أشرفوا على رسائل علمية رتيبة نوقشت مرات ومرات مع اختلافات فى العناوين، لا تشرفوا على رسائل تمتلأ بها أرفف المكتبات دون أدنى فائدة منها لا من قريب أو من بعيد. فعلوا ذلك في أقسامكم العلمية، نموا روح النقد والمقارنة في ندواتكم التثقيفية، في كل منتدياتكم، من أجل بناء ذات مفكرة تفكر تفكيرا نقديا بناء.  أستاذ الفلسفة بآداب حلوان