محمد دياب يكتب: الهجوم من إسرائيل، لكن الخيانة من إيران!

مرةً أخرى، تثبت الأحداث أن إيران، رغم خطابها الناري وأذرعها الممتدة في المنطقة، دولة مخترقة من الداخل إلى حدٍ مذهل. فقد قصفت إسرائيل فجراً منشآت نووية في نطنز، أحد أهم مراكز تخصيب اليورانيوم، في هجوم نوعي يعكس تحولاً استراتيجياً يشمل ساحة المعركة ويمتد إلى ميزان القوى الإقليمي بأسره
لم يكن الهجوم سوى حلقة في سلسلة استراتيجية ممتدة، كرّستها إسرائيل على مدى سنوات، هدفها تفكيك منظومة النفوذ الإيراني وتقييد فاعليتها في الإقليم، حيث نجحت تل أبيب في تحويل طهران من لاعب إقليمي مزعج إلى قوة مرهقة تتخبط في أزماتها الداخلية والخارجية فالهجوم كان ثلاثي الأبعاد: عسكرياً، استخباراتياً، واقتصادياً.من الناحية العسكرية، استهدفت إسرائيل بدقة مراكز النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وهو ما أفقد طهران كثيراً من قواعدها وركائزها الإقليمية، دون أن تتمكن من الرد الحقيقي، إلا من خلال طائرات مسيّرة وتصريحات تهديدية استعراضية لا تُخيف خصماً ولا تُطمئن صديقاً.أما استخباراتياً، فالضربات الأخيرة كشفت عن حجم الاختراق غير المسبوق للمؤسسة الأمنية والعسكرية الإيرانية. فاستهداف مواقع نووية حساسة، واغتيال شخصيات رئيسية، تم بدقة لا تتحقق إلا بتعاون داخلي. هنا تتجلى الحقيقة المُرَّة: العدو لا يحتاج إلى صاروخ إذا كان له خنجر في قلب الوطن.لقد توقفتُ أمام مشهدٍ واحد في هذا الهجوم: كمّ العملاء والخونة المنتشرين في الداخل الإيراني، وفي جنوب لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن.. وربما القائمة أطول مما نعلم. فعندما تتحول الدولة إلى أرض خصبة للجواسيس والعملاء، يصبح السقوط مسألة وقت. والمشهد يُذكّرنا بالحقيقة القاسية: من يبيع وعي شعبه يُباع هو أيضاً في المزاد، بلا ثمن، وبلا كرامةأما على المستوى الاقتصادي، فالعقوبات والخنق المالي أطاحا بالقدرة الإيرانية على التمويل العسكري والدبلوماسي، حتى تجاوز التضخم حاجز 50%، وانهارت العملة، وارتفعت نسب البطالة والفقر فإيران التي صدّرت الثورة بالأمس، عاجزة اليوم عن حماية حدودها.ما يدعو للتوقف أكثر، هو الصمت الغربي، بل التواطؤ شبه المعلن مع الهجوم الإسرائيلي فحتى العواصم الأوروبية الكبرى مثل برلين وباريس بدت متفهمة لـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وكأن العالم يعيد تعريف من الظالم ومن المظلوم، وفق ما يخدم المصالح لا المبادئ.هنا برزت مصر كصوت العقل الوحيد. لقد حذّرت مراراً من أن استمرار الحرب في غزة وغياب الأفق السياسي سيؤدي إلى انفجار أوسع في المنطقة. وعندما وقع الهجوم الإسرائيلي على إيران، لم تتأخر القاهرة في إدانته صراحة، مؤكدة أن الغطرسة العسكرية لا تُنتج أمناً حقيقياً، بل تؤسس لحروب لا تنتهي.ومع ذلك، تذهب مصر إلى ما هو أبعد من الإدانة، إذ تطرح بديلاً واضحاً يتمثل في الحلول السياسية، واحترام سيادة الدول، ووقف الاحتلال، وتطبيق القرارات الدولية. إنها الرؤية التي ترفض منطق “الخراب من أجل السيطرة”، وتتمسك بخط الدفاع الأخير عن الاستقرار في الإقليم.إيران الآن تحولت من تصدير الثورة إلى الدفاع عن بقاء النظام. الاحتجاجات الشعبية، النزيف الاقتصادي، العجز عن الرد، وفقدان ثقة الحلفاء، كلها مؤشرات على نهاية مرحلة وبداية أخرى. وإذا كانت طهران قد كسبت تعاطفاً في الماضي تحت شعار “الممانعة”، فهي اليوم تخسر جمهورها في الداخل قبل الخارجأما إسرائيل، فقد نجحت في استغلال الحرب على غزة لاختبار أسلحتها وفرض إرادتها ومن الواضح أن العملية الأخيرة ضد إيران جاءت كخطوة محسوبة ضمن خطة كبرى لإعادة تشكيل المنطقة على طريقتها. هذا الهجوم تجاوز حدود العمل العسكري، ليكشف عن تصميم سياسي مدعوم دولياً على إعادة رسم خرائط النفوذإننا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، ليس فيها مكان للحالمين ولا للمشتتين. التحالفات يعاد رسمها، والأدوار يعاد توزيعها. المشروع الإيراني يتراجع، وتحالف تقوده إسرائيل، مدعوم من قوى إقليمية ودولية، يصعدلكن.. وسط كل ذلك، تبقى مصر. الدولة الوحيدة التي لم تغرق في أوهام الطائفية أو التوسع أو الوكالة. الدولة التي لا تزال تحمي حدودها بجيشها لا بمرتزقة، وتُقدّم السياسة على الحرب، والكرامة على الشعاراتنحن أمام لحظة فارقة: انتهى عصر الشعارات، وبدأ عصر الخرائط الجديدة. من لا يملك أدواته سيتحوّل إلى ورقة، ومن لا يصحو الآن، سيُبكى عليه لاحقاًلم يتبقَّ في الشرق الأوسط قوة مستقلة رادعة سوى الجيش المصري. فهل آن أوان إدراك هذه الحقيقة، قبل أن تأتي العاصفة على الجميع؟